لقد كان تحرير العقل الذى هو المنحة الكبرى للإنسان من كل ألوان الأسر والرق والحجر عليه، والحجب له عن التفكير الحر، والتعلم المستقل، والبحث الدؤوب، هو من أعظم ما دعا إليه الإسلام فى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفى أصوله الفكرية والدينية، ولقد عاب الله تعالي على المشركين اتباعهم للظن في تكوين العقائد التي لا يغني فيها إلا اليقين القائم على البصيرة والبرهان، فيجب علينا التحرير العقلى من أسر التقليد، وأول التحرر من القيود التقليدية، هو قيد التحرر من اتباع الآباء والأجداد، فكثيرا ما وقف هذا الحاجز دون الاستماع والإنصات الحق إلى دعوات أنبياء الله تعالى ورسله، فيما جاؤوا به من البينات والهدى للناس، فتجد نبى الله هود عليه السلام يدعو قومه إلى التوحيد، وترك ما هم عليه من بطر وتجبر وتظالم.
متكلما معهم بالحسنى، فما كان منهم إلا أن قالوا له كما جاء فى سورة الأعراف " أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان عليه آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين" وكذلك وقف الكثيرون من الأقوام المختلفة مثل هذا الموقف الغبى من رسل الله إليهم، ومنهم مشركو العرب، حين جاءهم خاتم رسل الله محمد صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى توحيد الله، والشهادة له بالرسالة، وتبنى مكارم الأخلاق التى جاء بها من ربه، فرفضوا هذه الدعوة الخيّرة البصيرة، كما حكى عنهم القرآن الكريم فى سورة المائدة " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون" وبهذه المناقشات العقلية المضيئة والمنيرة يخاطبهم القرآن الكريم، ليعمل على زحزحة هذه العقول الجامدة، كأنها الحجارة أو أشد قسوة.
فلم يسلموا إلا بعد مشوار طويل، سقط فيه من سقط، ونجا فيه من نجا، فالتقليد الأعمي يسبب تعطيل السمع والبصر والفؤاد وينزل بالإنسان من أفق الإنسانية العاقلة إلى حضيض البهيمية الغافلة، بل يجعل الإنسان أضل سبيلا من الأنعام، لأنها لم تؤت ما أوتى من قوى التمييز والإدراك، فكان جديرا أن يكون من حطب جهنم كما أخبر الله عز وجل، وصدق فيهم قول الله عز وجل فى سورة الأعراف "ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" وأرداهم التقليل الأعمي موارد التهلكة فجعلهم يتحسرن ويندون في وقت لا ينفع فيه الندم أو ما سمعتم قول الله تعالى، علي لسان الفجار فى سورة الملك " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير"
ولقد دعا الإسلام إلى تحرير العقل من اتباع السادة والكبراء، فالسيادة والكبرياء ليست معيارا للحق، كما أن الأبوة بمراحلها المختلفة ليست معيارا للحق، ولكن العرب كغيرهم اتبعوا سادتهم وكبراءهم، واعتبروهم أولى بالحق من غيرهم، كما اعتبر الآخرون آباءهم أولى بالحق من سواهم، ومن المؤسف أن يظل الناس وراء هذا الباطل الصراح، الذى لا سند له من منطق ولا علم، ولا هدى ولا كتاب منير، إلى أن تنكشف الحقيقة، ويظهر وجهها علنا للناس، فاضحا ما كانوا عليه من هذيان وترهات، اتضح كذبها، وبان زيفها، وظهر انخداع الجميع بها، ويظهر القرآن هذه المناقشات، والمحاجات والمخاصمات بين هذه الطوائف المتشاكسة، من الكبراء المرموقين والفقراء المستضعفين، وما بينهما من مقولات ومصارحات ومصادمات.