قال بعض الحكماء: "كيف يفرح بالدنيا مَن يومه يهدِم شهرَه، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟! وكيف يفرح مَن يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته؟!
وقال الفُضَيْل بن عِيَاض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة. قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ. فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة. قال: ما هي؟ قال: تُحسِن فيما بقي؛ يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأتَ؛ أُخذت بما مضى وبما بقي.
قال بعض الحكماء: "من كانت الليالي والأيام مطاياه، سارت به وإن لم يَسِر".
وذم طول الأمل والحث على تقصيره
وأما وصية ابن عمر - رضي الله عنهما -، فهي مأخوذة من هذا الحديث الذي رواه، وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل، وأن الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصباح، وإذا أصبح لم ينتظر المساء، بل يظن أن أجَلَه يدركه قبل ذلك. قال المروزي: "قلت لأبي عبدالله - يعني أحمد - أي شيء الزهد في الدنيا؟ قال: قصر الأمل، من إذا أصبح قال: لا أمسي". وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: "أستودعكم الله، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها". فكان هذا دأبه إذا أراد النوم. وقال بكر المزني: "إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب، فليفعل؛ فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا، ويصبح في أهل الآخرة".
وقال عون بن عبدالله: "ما أنزل الموت حقَّ منزلته من عدّ غدًا من أجله". وقال بكر المزني: "إذا أردت أن تنفعك صلاتك؛ فقل: لعلي لا أصلي غيرها". وهذا مأخوذ مما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((صَلِّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ)). روي عن أبي الدرداء والحسن أنهما قالا: "ابنَ آدم، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك".
والحث على استغلال أيام العمر في الأعمال الصالحة ..
قوله: "وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك". يعني: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها الموت. وقد روي معنى هذه الوصية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ)، وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل وهو يعظه: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ).
وقال غنيم بن قيس: "كنا نتواصى في أول الإسلام: ابنَ آدم اعمل في فراغك قبل شغلك، وفي شبابك لكبرك، وفي صحتك لمرضك، وفي دنياك لآخرتك، وفي حياتك لموتك".
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:(بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدَّابَّةَ، وَخَاصَّةَ أَحَدِكُمْ، أَوْ أَمْرَ العَامَّةِ).
وبعض هذه الأمور العامة لا ينفع بعدها عمل، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال:(لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ؛ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا).