إن الثبات على الخير الذي اعتاده الشخص من الطاعات وأعمال البر - له أسباب، الثبات على المنهج الحق، وعدم التلون - له أسباب، فمِن أهم أسباب الثبات الالتجاء إلى الله بالدعاء، والخوف أن يُسلب الشخصُ هذا الخيرَ الذي أنعم الله به عليه، فيحور بعد الكور، فسادةُ العبادِ والمصلحين الأنبياء، كانوا يخافون من التحول من الخير والاستقامة إلى ضدهما، فخليل الرحمن إمام الموحدين يخاف الشرك، ويدعو ربه أن يجنبه إياه:
﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾ ..
وخليله الآخر سيدُ ولدِ آدمَ، محمدٌ، يخاف من التحول من الخير إلى ضد ذلك، ويسأل ربَّه الثباتَ حتى الممات، فعن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثر أن يقول: (يا مقلِّبَ القلوب، ثبِّت قلبي على دينك)، فقلت: "يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟"، قال: (نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلِّبها كيف يشاء).
ومن أسباب الثبات:
إخلاص العمل لله، والتجرد من حظوظ النفس، فيكون العمل كله لله، لا تتشوف النفس فيه لرفعة وثناء، أو تحصيل منفعة دنيوية، أما إذا كانت النفس تتطلع لأمر آخر، فربما طال عليها الأمد في تحصيله، ففترتْ وتركت العملَ، أو غيَّرت الطريق؛ رجاء تحصيله في وسيلة أخرى، وإذا حصلت على ما تريد، فترت عن العمل.
ومن أسباب الثبات:
معرفة إلى أي نوع من أنواع الخير تميل النفس، ثم تُحمل عليه، فهذا مظِنة الاستمرار والثبات، فخَلَق الله عبادَه متفاوتين في قدراتهم وميولهم، فمن حمل نفسه على ما لا تميل إليه، ربما انقطع عن العمل بعد حين، وما ضار أصحابَ النبي تباينُهم في أبواب الخير، فهذا سعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وأبو عبيدة قادةَ الجيوش، ورؤوسًا يرجع إليهم عندما تدلهمُّ الخطوب، ويلتحم الصفان، وهذا ابن عباس وأبو هريرة حملةَ الإرث النبوي، وأوعية العلم، وهذا عثمان بن عفان إمامًا في البذل والعطاء، وهذا الفاروق قوة على الباطل، وحربًا على الشيطان، وهذا أبو بكر صلبًا في الثبات على دين الله، لا ينثني في رد الضال إلى الدين، وهذا حسان شاعر الإسلام منبرًا إعلاميًّا ينافح عن الإسلام بلسانه، وهذا أبو ذر إمامًا في الزهد، وهذا عبدالله بن عمرو العابد الناسك، وفي كلٍّ خير، وما ضارهم أن برز بعضهم في باب من أبواب الخير، وكان عنده قصور في بعض الجوانب، فكل ميسر لما خُلق له.
ومن أسباب الثبات على الخير:
عدم تحميل النفس ما لا تطيق الاستمرار عليه من العمل، سواء كان في باب التعبد المحض، أو إنكار المنكر، أو الدعوة، أو غير ذلك، فعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -:(ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟) قلت: "إني أفعل ذلك"، قال:(فإنك إذا فعلت ذلك، هَجَمَتْ عينُك، وَنَفِهَتْ نفسك - أي تعبت وكلت - وإن لنفسك حقًّا، ولأهلك حقًّا، فصُم وأفطرْ، وقُم ونَم) رواه البخاري فالنفس تكل وتمل إذا حمِّلت ما لا تستطيع الاستمرارَ عليه من الخير، ومع الملل تترك النفس العملَ كله، فأرشد النبي إلى الاعتدال في العمل، وإعطاء النفسِ حظَّها من الراحة التي تتقوَّى بها على الخير.