الكبر هو استعظام الإنسان نفسه، واستحسان ما فيه من الفضائل، والاستهانة بالناس واستصغارهم، والتّرفع على من يجب التواضع له ، والتكبر هو أن يرى المرء نفسه أكبرَ من غيره، وأرفع مقاما، وأجل قدرا ، ولكن يجب أن يعلم المتكبر ويتفكر ، وأن يعرف نفسه ويعرف صفات ربه تبارك وتعالى ، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر .
فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه لا يليق به إلا التواضع ، وإذا علم صفات ربه عز وجل ،علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا لله سبحانه وتعالى ، والكبرياء: في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم، فلا كبرياء لغير الله، فهو المتفرد بالعظمة والجلال والكمال والعزة والكبرياء .
فتفكر في أصلك أيها الإنسان ، وأعلم أنه هل أصل الإنسان إلا التراب، ثم من نطفة قذرة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم صار إنسانا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، فوجوده مسبوق بالعدم، وقوته مسبوقة بالضعف، وغناه مسبوق بالفقر.
فلماذا نسيت أصلك أيها الإنسان، وتكبرت على ربك، وأنكرت فضله عليك، وأصابك العجب والغرور؟ وهل خرجت إلى الدنيا من دون فضله ؟ وهل مُنحت السمع والبصر والجوارح وسائر النعم لتتكبر وتتجبر وتكون من المفسدين ؟
وإعلم أن الكبر خلق من مساوئ الأخلاق، وخصلة من قبيح الخصال، وهو داء يصيب صاحبه بالتيه والعجب والغرور، فلا يرى إلا نفسه، ولا يرى فضلا لأحد ولا مكانة، وهو داء يصد صاحبه عن الحق ويجره إلى المهالك ، وذلكم هو داء الكِبر، وما أدراكما الكبر ، هو داء ابتلي به كثير من الناس، فعميت بسببه الأبصار عن الحق فلا تبصره، وغلفت بسببه القلوب عن الحق فلا تفقهه .
ومن كان خسيسـا فمن أين يجبر خسته ؟ بكمال غيره ، وبمعرفة نسبه الحقيقي ،وأعني أباه وجده ، فإن أباه القريب وجده البعيد تراب ، وأما التكبر بالغنى وكثرة المال وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار والتكبر بالمناصب فكل ذلك تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان ، وهذا أقبح أنواع الكبر ، فلو ذهب ماله أو احترقت داره لعاد ذليلاً .
فإذا رأيت إنسانا متكبرا فاعلم أنه ينتحل صفة لا تليق بضعفه وعجزه وذله وهوانه، والكبر داء خطير، وشر مستطير، عواقبه وخيمة، ونتائجه سيئة في الدنيا والآخرة، من ابتلي به قاده إلى كل سوء، ومنعه من كل خير ، فما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر مضطر إليه ليحفظ كِبره، وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه خوفا من أن يفوته عزه.
والكبر كبيرة من كبائر الذنوب ، وهو مِن أول الذنوب والمعاصي التي ارتكِبت في حق الله تبارك وتعالى، والكبر سبب من أسباب هلاك الأمم السابقة ، فبكبرهم وعنادهم طغوا وتجبروا وظلموا وأفسدوا، تمردوا على خالقهم، واستنكفوا عن عبادته، وقاتلوا أنبياءه ورسله، وصدوا عن سبيله، فحق عليهم العذاب، وجاءهم الهلاك، وحل بهم الدمار .
وأن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنـًا ونعله حسنـًا ، فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بَطَرُ الحقِّ وغمط الناس" رواه مسلم .
وأن التكبر في شمائل الرجل كصعر في وجهه ، ونظره شزرا ، وفي أقواله حتى في صوته ونغمته ، ويظهر في مشيته وتبختره ، وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته ، فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله ، ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض ، فمنها التكبر بأن يحب قيام الناس له أوبين يديه ، ومنها أن لا يمشي إلا ومعه غيره خلفه .
ومنها أن لا يتعاطى بيده شغلا في بيته ، والتواضع خلافه : فجاء أن عمر بن عبد العزيز أتاه ليلة ضيوف ، وكان يكتب فكاد السراج يطفأ فقال الضيف : أقوم إلى السراج فأصلحه ؟ فقال : ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه ، قال : أفأنبه الغلام ؟ فقال : هي أول نومة نامها ، فقام وملأ المصباح زيتا فقال الضيف : قمت أنت يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ذهبت وأنا عمر ، ورجعت وأنا عمر ، ما نقص مني شيء ، وخير الناس من كان عند الله متواضعا.
وقال ابن أبي سلمة : قلت لأبي سعيد الخدري : ما ترى فيما أحدث الناس من الملبس والمشرب والمركب والمطعم ؟ فقال : يا ابن أخي ، كل لله واشرب لله والبس لله ، وكل شيء من ذلك دخله زهو أو مباهات أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف ، وعالج في بيتك من الخدمة ما كان يعالج رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في بيته .
فكان يحلب الشاة ، ويخصف النعل، ويرقع الثوب ، ويأكل مع خادمه ، ويشتري الشيء من السوق لا يمنعه الحياء أن يعلق الإناء بيده ، ويصافح الغني والفقير ، ويسلم مبتدئا على كل من استقبله من صغير أو كبير ، ويجيب إذا دُعي ولا يحقر ما دُعي إليه ، لين الخلق ، جميل المعاشرة ، طليق الوجه ، شديدا في غير عنف ، متواضعا في غير مذلة .
جوادًا من غير سرف ، رقيق القلب ، وزادت عليه السيده عائشة رضي الله عنها ، قالت : وأنه صلى الله عليه وسلم ، لم يمتلئ قط شبعا ، ولم يبث إلى أحد شكوى ، وكان يقول : " البذاذة من الإيمان "رواه أبو داود .
فالكبر سبب في الإعراض عن الحق، والبعد عن دين الله، والصرف عن آياته ، فالمتكبر لا يقبل الحق، ولا ينتفع بآيات الله، ولا تؤثر فيه موعظة ولا نصيحة ، والكبر داء يذل صاحبه، ويخزيه، ويحط من قدره عند الله وعند عباده، ويبعده عن الله، ويحجبه عن رحمته وعطائه ، فكلما تكبر واستعلى ونظر إلى نفسه نظرة إجلال وإكبار نزل قدره، وسقط من أعين الناس، ومقته الله ومقته الناس .
ولكن ما السبيل إلى تطهير النفس من الكبر والغرور والخيلاء؟ وهل من علاج لهذا الداء الذي يعاني منه كثير من الناس؟ وهو يجب أن نعلم أن الكبر خلق ذميم، يبغضه الله ورسوله، ويبغضه كل صاحب عقل سليم وفطرة نقية ، وهو خلق سيء لا يليق بإنسان عاقل، فضلا عن مسلم يرجو لقاء ربه والدار الآخرة .
فكيف تتكبر على الله ، وهو خالقك ورازقك؟ وتتكبر على عبادة ربك ، وقد خلِقت من أجلها، وفيها فلاحك ونجاتك وسعادتك؟ وفي تكبرك على عبادة الله هلاكك وخسرانك؟ وكيف تتكبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قد جاءك بهذا الدين العظيم، والقرآن الكريم الذي أنقذك الله به من الكفر إلى الإيمان، وأخرجك به من الظلمات إلى النور؟
فالكبر خلق ذميم في باطن الإنسان، والكبر آفته عظيمة، لا يقدر على قبول النصيحة، ولا يعطي حقوق الناس، وشر المتكبرين المتكبر على الله، وهذا أفحش الكبر، ولذلك كان فرعون عندما قال أنا ربكم الأعلى ، أبغض الخلق إلى الله .
والكبر أن تزدري الناس، والعجب أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك، ويوجد حتى في بعض المتعبدين، والكبر على العصاة حتى كأنه يرى الجنة خلقت له وحده، وأن النار خلقت لهؤلاء سيدخلونها قطعا، وربما غفر الله للعاصي وعذب هذا المتكبر .
وينبغي علينا أن لا نعين المتكبرين، بل أن ننصحهم، فإن استكانة بعض الناس وذلهم يدفع المتكبرين إلى مزيد من التكبر، وبعض الناس يتكبر بالعلم والشهادة، فإذا صار في رتبة عالية من الشهادات الدنيوية نفخ صدره، ولم يعد يعرف من كان يصاحبه، ولذلك ترى هؤلاء مبغوضين مكروهين من الخلق .