تمر الأيام ويمر الزمان وفى مثل هذه الايام الطيبه الأيام المباركات من شهر ذو الحجه وقف النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم على عرفات يوم عرفه ونادى على الناس كافه وقال قول الحق سبحانه وتعالى "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا " سورة المائده .. وإنكم في أيام فضل الله زمانها، وعظم على الأيام شانها، فقد جادت بفضلها الأخبار، وبين فضل الأعمال الصالحة فيها نبيكم المختار، ولاسيما يوم عرفة، فإن فضله مشهور وصيامه يكفر السنة الماضية والقابلة وها هم حجاج بيت الله يخطون خطواتهم على هذه الأرض الطيبة الآمنة بأمان الله ثم بيقظة مسؤوليها، هذه الأرض التي تحكي تاريخ الإسلام المجيد، تاريخ نشأة هذا الدين في هذه البطاح، قصة الانتصار والكفاح، سيرة النماذج المثالية العالية ومصارع الشهداء في سبيل الحق، بلد وتاريخ قفزت فيه البشرية إلى أبعد الآفاق، دينًا ودنيا، علمًا وعملاً، فقهًا وخُلُقًا، أرض طيبة وجوّ روحاني، تزدحم فيه هذه المناظر والمشاهد حيةً نابضة، تختلط فيه مشاعر العبودية وأصوات التلبية والإقبالُ على الرب الرحيم.
فما أحوج الأمة في أيام محنِها وشدائدها، وأيام ضعفها وضياعها، إلى دروسٍ من تاريخها تتأمّلها، وإلى وقفاتٍ عند مناسباتها تستلهم منها العبر ويتجدّد فيها العزم على الجهاد الحقّ، ويصحُ فيها التوجه على محاربة كل بغي وفساد، ما أحوجها إلى دروسٍ تستعيد فيها كرامتها وترد من يريد القضاء على كيانها، وإن في حجة النبى الكريم محمدٍ صلى الله عليه وسلم العبر والدروس الكثره والكثيره ..
فلقد خطب صلى الله عليه وسلم خطبةً في موقف عرفة ويوم الحج الأكبر وأيام التشريق، أرسى فيها قواعد الإسلام وهدم مبادئ الجاهلية، وعَظّمَ حُرمات المسلمين، خطب الناس وودعهم بعد أن استقر التشريع وكمل الدين وتمت النعمة ورضي الله هذا الإسلام دينًا للناس كلهم، لا يقبل من أحدٍ دينًا سوى عبادتِه ..
وألقى النبى الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا المقام العظيم كلماتٍ جامعةً موجزة، تحكي المبادئ الكبرى لهذا الدين، وأنبياء الله حين يبلغون رسالات الله ليسوا تجار كلام، وإنما كلامهم حقٌ وشفاءٌ لما في الصدور ودواءٌ لما في القلوب.
في حجة الوداع ثبّت النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين أصول الديانة الإسلامية وقواعد الشريعة، ونبّه بالقضايا الكبرى على الجزئيات الصغرى، ولقد كانت عبارات توديعية بألفاظها ومعانيها وشمولها وإيجازها، استشهد الناس فيها على البلاغ، كان من خلال تبليغه كلمات يمتلئ حبًّا ونصحًا وإخلاصًا ورأفة بالناس ..
ولقد عانى وكابد من أجلِ إخراج الناس من الظلماتِ إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، حتى صنع منهم بإذن ربه أمةً جديدة ذات أهدافٍ واضحة ومبادئ سامية، هداهم من ضلال، وجمعهم بعد فرقة، وعلمهم بعد جهل وهذه وقفاتٌ مع بعض هذه الأسس الإسلامية، والقواعد النبوية، والأصول المحمدية.
فإن أول شيء أكد عليه في النهي عن أمر الجاهلية هو الشرك بالله؛ فلقد جاء بكلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" شعار الإسلام وعَلَم الملة، كلمةٌ تخلع بها جميع الآلهة الباطلة، ويثبت بها استحقاق الله وحده للعبادة، فالله هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق وما سواه مرزوق، وهو القاهر وما سواه مقهور، هذا هو دليل التوحيد وطريقه ..
إن خطبة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في عرَفات في حَجَّة الوداع فيها مِن الدروس ما فيها، يشعُّ منها النور، فلو تدبَّرها المسلمون وعملوا بما فيها، لكانت سببًا لسعادتهم في الدنيا والآخِرة ومن القضايا المثارة في كلام الرسول التأكيد بأن الناس متساوون في التكاليف حقوقًا وواجبات، لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسبٍ ولا تمايزَ في لونٍ ويقول صلى الله عليه وسلم "أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضلٌ على عجمي إلا بالتقوى".
فليس لعربيٍ على عجميٍ فضل، ولا لعجميٍّ على عربي فضل، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود، فضل إلا بالتقوى وقال صلى الله عليه وسلم يا معشر قريش: لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم، وتجيء الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئًا ، أيها الناس: إن الله قد أذهب عنكم عبيّة الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناسُ رجلان: رجل تقي كريم على الله، وفاجرٌ شقيّ هيّنٌ على الله، والناس بنو آدم، وخلق اللهُ آدم من تراب". رواه الترمذي
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أَيُّهَا النَّاسُ: اسْمَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا، أَيُّهَا النَّاسُ: "إن دماءكم وأموالكم حرامٌ عليكم، كحُرمة يومكم هذا، في شَهرِكم هذا، في بلدكم هذا، ألا وإن كل شيء مِن أمر الجاهليَّة تحت قدميَّ هاتَين موضوعٌ، ودماء الجاهليَّة موضوعة، وإن أول دمٍ أضَع مِن دمائنا دمُ ابن ربيعَة الحارث بن عبدالمطَّلب - كان مُسترضَعًا في بني سعد فقتلتْه هُذيل - ورِبا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع رِبانا؛ ربا العباس بن عبدالمطَّلب، فإنه موضوع كلُّه، فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحلَلتُم فروجهنَّ بكلمة الله، وإن لكم عليهنَّ ألا يوطئْن فُرُشَكم أحدًا تَكرهونه، فإن فعلنَ ذلك، فاضْرِبوهنَّ ضَربًا غير مُبرِّح، ولهنَّ عليكم رزقُهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف، وإني قد تركتُ فيكم ما لن تَضلُّوا بعده إن اعتصمتم به: كتابَ الله، وأنتم تُسألون عنِّي، فما أنتم قائلون؟! "، قالوا: نشهَد أنك قد بلَّغت رسالات ربِّك، وأدَّيت، ونصَحتَ لأمَّتِك، وقضَيت الذي عليك، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ويَنكُتها إلى الناس: " اللهم اشهد، اللهم اشهد ".
وهكذا وصى النبى الكريم صلى الله عليه وسلم بحِفْظُ النفوس وصيانةُ الدماء وهى قضيةٌ خطيرة يُثيرها خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة في كلماته التوديعية، ذلكم حكم القصاص في النفس والجِراحات، كان من حِكَمِه التشريعية زجر المجرمين عن العدوان ..
ومن المبادئ العظيمة كذلك التي قررتها خطبة الوداع: تأكيد حق المرأة في الحياة الكريمة، واستقلال شخصيتها، ورعاية حقها، وهذا المبدأ مما لا يحتاج كثير بيان حيث تضافرت على تأكيده نصوص الشريعة الإسلامية، فأعطت للمرأة الحق الكامل في مساواتها بالرجل في التكاليف والواجبات، إلا ما اقتضت خصوصية فطرتها أن تنفرد به من أحكام، تبعا لفطرتها، وأن الإسلام قد ضمن للمرأة الحياة الكريمة، والاستقلال في الشخصية، بحيث فرض لها الميراث والنفقة، وأعطاها حق الملكية والتصرف من بيع، أو شراء، أو تجارة، بل أوصى الرجل بها خيرا، وأوجب لها حقوقا عليه؛ كما أوجب لها حقوقا عليها.
ولقد دخلت العشر الأوائل من ذي الحجة فى الانتهاء، وهي عظيمة القدر لمن عرفها، وأدرك سرها، وقد أشاد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “ما من أيام العمل الصالح فيهن احب الى الله من هذه الأيام العشر” قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: “ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء“.
فاغتنموها بصالح العمل، وتوبوا من فرطات الزلل، وصوموا يوم عرفة، فإن صيامه كفارة للسنة الماضية والقابلة؛ كما ورد في الجديث عن النبى صلى الله عليه وسلم ، وتعرضوا لنفحات ربكم من تضرع واستغفار، واستكمال ذكره بالعشي والإبكار، لعلكم تشملكم بركة القبول مع الواقفين، وتعود عليكم الرحمة مع الطآئفين والعاكفين، وتفقدوا إخوانكم الفقراء، أكرموهم وأعينيهم على الأضحية، أدخلوا عليهم الفرح، وعلى أطفالهم، فإن ذلك من أفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، فما عاش من عاش لنفسه، وما وصل من غفل عن غيره.