عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".
وهذا الحديث أصلٌ في قصر الأمل في الدنيا ، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر، يهيئ جهازه للرحيل، قال تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ}
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:( مَالِي وَلِلدُّنْيَا، إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا).
ومن وصايا المسيح - عليه السلام - لأصحابه أنه قال لهم: "من ذا الذي يبني على موج البحر دارًا؟! تلكم الدنيا؛ فلا تتخذوها قرارًا". وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول : "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل".
قال بعض الحكماء: "عجب ممن الدنيا مولية عنه، والآخرة مقبلة إليه، يشتغل بالمُدبِرة، ويعرض عن المقبلة!"
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قراركم،كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من المقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
حال المؤمن في الدنيا
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دارَ إقامة ولا وطنًا؛ فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين : إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه. أو يكون كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة؛ فلهذا وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عمر أن يكون في الدنيا عبى أحد هذين الحالين:
فأحدهما: أن ينزل المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة، لكن في بلد غربة، فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه. قال الحسن: "المؤمن في الدنيا كالغريب؛ لأنه لما خُلق آدم، أُسكن هو وزوجته الجنة، ثم أُهبطا منها، ووُعدا الرجوع إليها، وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبدًا يحن إلى وطنه الأول ..
وكان عطاء السلمي يقول في دعائه: "اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غدًا بين يديك".
وما أحسن قولَ يحيى بن معاذ الرازي: "الدنيا خمر الشيطان، مَن سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى، نادمًا مع الخاسرين".
الحال الثاني: أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، وإنما هو سائر في قَطْع منازل السفر؛ حتى ينتهي به السفر إلى آخره، وهو الموت. ومن كانت هذه حاله في الدنيا، فهِمَّته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من متاع الدنيا، ولهذا أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب.
قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم، ورحله إلى الآخرة؟!
الحث على اغتنام أوقات العمر
وقال الحسن: "إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك".
وقال: "ابنَ آدم، إنما أنت بين مطيتين يوضعانك، يوضعك النهار إلى الليل، والليل إلى النهار، حتى يسلمانك إلى الآخرة".
قال داود الطائي: "إنما الليل والنهار مراحل، ينزلها الناس مرحلة مرحلة، ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادًا لما بين يديها، فافعل؛ فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك، واقضِ ما أنت قاضٍ من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك".
وكتب بعض السلف إلى أخ: "يا أخي يخيل لك أنك مقيم! بل أنت دائب السير، تساق مع ذلك سوقًا حثيثًا، الموت موجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكارٍّ عليك".