ماذا لو أفاق العالم فجأة واكتشف أننا لم نعد موجودين؟ بالتأكيد لن يخشى من خسارة أي شيء، فلن ينقطع الإنترنت ولن تتوقف الأقمار الصناعية ولا مصانع السيارات وقطع غيارها، ولن تتوقف أسواق البورصة، ولن يفتقد أي مواطن في العالم أي نوع من الدواء ولا المعدات الطبية وأجهزة الأشعة وغرف العمليات، ولا حتى السلاح الذي يقتل به بعضنا بعضا، فلم نقدم للعالم أي خدمة سوى الكلام وصورة قتل بعضنا في الصحف ونشرات الأخبار.
ستطل سيدة فرنسية من شرفتها لتقول لسيدة أُخرى لقد اختفى العرب جميعاً، وستسأل الأُخرى الجاهلة: أنت تتحدثين عن هؤلاء الذين يقتلون بعضهم ليل نهار؟ نعم، واذا كان أحد يعتقد أنني أبالغ في رسم الصورة فليقف على مسافة في أية عاصمة خارج الوطن، وليراقب خيط الدم من ليبيا حتى العراق مروراً بمصر وسورية واليمن وما بينها من أمة نصفها يسبح على بطنه من شدة الجوع ونصفها الآخر يسبح على كرشه من شدة الشبع، وكلهم عالة على البشرية.
لن يتوقف أي شيء في حياة المواطن الياباني، ولن يفتقد المواطن الأوروبي أي شيء، ولن يخشى الماليزي أوالتركي أو الأميركي من تعطل حياته اليومية، فليس لنا أي دور في الإنتاج الحضاري ولا المعرفي ولا الصناعي ولا الإنتاج المادي ولا الاكتشافات أو الاختراعات، فقط نتناول ما تنتجه البشرية، وكثير من هذا الإنتاج نستهلكه بشكل ضار وخاطئ، من سيفتقدنا كثيراً هي مصانع الأسلحة التي تكدس المليارات لأننا الأكثر استهلاكاً لما تنتجه، ولم نتوقف عن عقد الصفقات الضخمة لأننا نفتح لها سوقاً بالدم مما نستهلكه يومياً من أحدث أسلحة القتل والفتك والدمار.
هم ينتجون كل شيء ونحن نستهلك كل شيء، ولا ننتج سوى الكلام ثم نعيد تفسير الكلام وتأويله وتدويره عن التحريض والكراهية والإقصاء، فكل من العرب له مشكلة مع العرب، ولم تتوقف صراعات العرب البينية منذ فجر التاريخ، دول تكره بعضها وقبائل تتربص لبعضها ومليشيات تنتشر بلا حساب، كلٌ شاهرٌ ما استطاع أن يعده من قوة وخيول لم تتوقف عن الجري في ساحات المعارك. وحده الفلسطيني المحظوظ وسط هذه الأمة أن صراعه مع إسرائيل، لكنه لم يشذ عن الأوركسترا العربية، فقد فتح صراعاً مع نفسه ليؤكد انتماءه لهذه الأمة.
نحن في ذيل القائمة في كل شيء، لا مستشفيات طبية يأتي العالم للعلاج فيها، ولا جامعات تحجز لها مكاناً في أول أربعمائة جامعة حسب تصنيف شنغهاي، ولا مؤسسات حقيقية ولا برلمانات يعتد بها ولا قانون يحترم، كل شيء صوري، فليس هناك ما نباهي به بين الأمم. قبل سقوط الرئيس مبارك بسنوات ذهب للعلاج في أحد مستشفيات ألمانيا مصطحباً عدداً من المساعدين والحراس، وقد لفتت الحركة غير العادية في المستشفى نظر مواطن ألماني كان يتعالج بنفس القسم فسأل عن النزيل المجاور فقيل له: إنه زعيم عربي، فسأل كم سنة له في الحكم؟ قيل له: ثلاثة عقود، قال: هذا دكتاتور وفاسد، أما لماذا ديكتاتور فلأنه في الحكم منذ ثلاثين عاماً، وفاسد لأنه رئيس وضعت تحت تصرفه كل الامكانيات والصلاحيات ولم ينشئ مستشفى يثق في العلاج به.
لقد كشفت اضطرابات الإقليم خلال السنوات القليلة الماضية هشاشتنا في كل شيء، فمع أول هبة ريح انهارت دول، واكتشف أن ما بنيناه في السنوات الماضية لم يكن أكثر من بناء كرتوني سطحي لا يحتمل أقل الهزات، والأسوأ اكتشاف حجم الكراهية والعنف المتأصل في ثقافتنا العميقة وحجم قدرتنا المدهشة بأن نعيد إحياء أسوأ نزعات المذهبية المدمرة ونستلها لنبرر غريزة القتل المضاد، مستدعين أكثر ما نملك من قدرات كلامية وفتاوى وفضائيات وأموال لإشباع غرائز القتل.
نحن أكثر شعوب الأرض حديثاً واحتفالاً بالانتصارات رغم الهزائم التي تملأ تاريخنا الحديث والقديم، حتى شعاراتنا أكبر من الأوطان، نحول الهزيمة لنصر بمجرد جمل إنشائية، خبراء في قلب الحقائق وتزييف الواقع والماضي، غارقون في أحلام المستقبل بأوهام بعيدة تماماً عن واقع آخذ بالاهيار، لا نفعل شيء للمستقبل سوى التمني والكلام.
نحن أكثر شعوب الأرض حديثاً عن الوحدة، وأكثرها تشتتاً، أكثر شعوب الأرض حديثاً عن الديمقراطية ونحن غارقون في أشد أنواع الاستبداد، وأكثر شعوب الأرض حديثاً عن التسامح والمحبة والسلام ونحن أشدها كراهية، ونحن أكثر الشعوب حديثاً عن حقوق الإنسان فيما أن الإنسان لا يساوي لدينا جناح بعوضة، حقوق الطفل والمرأة وكل هؤلاء يتم سحقهم إذا استدعت مصلحة جهة أو حزب، وبعد كل حدث نكتشف أن كل منظومة القيم تلك ليست سوى مجموعة شعارات تسقط مع أول صراع وأول حكم وأول مصلحة لقبيلة سياسية.
كان يجب أن يصاب الإقليم بهذه الرجة العنيفة، ليس فقط لتُظهر عرينا السياسي والأخلاقي والاجتماعي، بل تصيبنا بصدمة اكتشاف واقع الحالة العربية التي حاولنا اخفاءها على امتداد عقود وربما قرون أصابت بعض الحالمين بعدوى الأمل الكبير ليغنوا “الحلم العربي” والوحدة العربية قبل أن نعود لعصر الجاهلية ونتحدث عن وحدة الدولة الواحدة في العراق وسورية وليبيا واليمن، ولتنزوي كل أحلام وحدة العرب في دولة.
لم يكن يتصور أي من الشباب العرب أن أمامهم واقعا بهذه القسوة وبهذا السوء، ففي لحظة كانت كل الآمال بمستقبل واعد أكثر، ولكن الحقيقة التي نعرفها جميعا أن كل الشباب العربي الذي يتعرض للتهميش وهو بلا عمل يصطف على الأرصفة في طوابير البطالة منذ سنوات، وهجرة الشباب العربي باتجاه واحد نحو الغرب حتى عندما كانت الدول مستقرة، فما بالنا عندما يحدث هذا الارتجاج.
كثير يقارنون بين ما يحصل عندنا وما حصل في أوروبا عندما خرجت للنور على أمل أن يؤدي هذا النفق المظلم إلى نقطة الضوء .. لكن هناك تمايزاً في التجربتين .. ففي أوروبا صاحب الحروب الأهلية نقاشٌ فكري هائل، بينما يصاحب حروبنا نزعات انتقامية غرائزية لا تبشر، إذا لم نبدأ نقاشنا وقراءة واقعنا على مهل بعيداً عن صخب السلاح ورائحة الدم .. نقاشاً يبدأ بسؤال: ماذا نحن؟ وينتهي بإجابة كيف يجب أن نكون؟ وإلا فإن الرحيل عن الأوطان هو أفضل الخيارات للأجيال القادمة .