لقد علِم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في الجهاد فضلاً لا يضاهى، وخيرا لا يتناهى، وأيقنوا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الري الأعظم في شرب كؤوس الحُتُوف، فشمروا للجهاد عن ساق الاجتهاد، ونفروا إلى ذوي الكفر والعناد ، وجهزوا الجيوش والسرايا، وبذلوا في سبيل الله العطايا ، وأقرضوا أموالهم لمن يضاعفها ويزكيها، ودفعوا سلع النفوس من غير مماطلة لمشتريها ، وضربوا الكافرين فوق الأعناق، واستعذبوا من المنية مر المذاق، وباعوا الحياة الفانية بالعيش الباق .
أبو دجانة هو سماك بن خرشة بن الخزرج أسلم مبكرًا مع قومه الأنصار ، وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بينه وبين عتبة بن غزوان ، وشهد معركة بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو صحابي جليل من الانصار من قوم بني ساعدة من الخزرج، وعندما اسلم وشرح الله قلبه للاسلام عاهد الله على اعلاء راية الاسلام، وقد حضر ابو دجانة غزوة بدر، وكان يتميز بالعصبة الحمراء التي كان اذا ربطها هبت رياح الموت في كل مكان .
ولقد كان الصحابى الجليل، أبو دجانة سماك بن أوس الأنصارى، واحدا من السابقين الأولين لدخول الإسلام، فبايع الرسول مبكرا ضمن من بايعه من الأنصار، وحينما شرع الله قتال المشركين الذين يقتلون المسلمين ظلما وعدوانا، فرسالة الإسلام السمحة لا تأمر بقتل وترويع الآمنين مهما كانت عقائدهم الدينية ، ولم يبحث ذلك ال فارس النبيل عن القتال لمجرد القتل والدم .
وحضر ابو دجانة غزوة خيبر وكان من اللذين قاتلوا في هذه الغزوة، كما انه قاتل في غزوة خيبر، وقد قتل الحارث أبا زينب وهو سيد يهود خيبر، وكان ابو دجانة هو واحد من اللذين كانوا سببا في النصر، فقد بارز رجل من اليهود قتل قبله اثنين من المسلمين حتى صاح فيهم من يبارز فخرج له ابو دجانة فقتله، فكبر النبي ومن بعده المسلمون ودخلوا حصن خيبر منتصرين بأمر الله .
ولكن وفقا للغاية الحقيقية من الجهاد، وهو الدفاع عن النفس والوطن، وفقا لقوله تعالى ( أُذن للذين يُقَاتلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدمت صلوات وبيعٌ ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله قوى عزيز ) ومن أجل هذا شهد أبو دجانة بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان واحدا من فرسان الإسلام الذى كتب الله على أيديهم نصره المبين.
عن الزبير بن العوام رضى الله عنه قال: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفًا يوم أحد فقال: "من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقمت فقلت: أنا يا رسول الله ، فأعرض عني ثم قال: "من يأخذ هذا السيف بحقه؟" فقلت: أنا يا رسول الله فأعرض عني ثم قال: "من يأخذ هذا السيف بحقه؟" فقام أبو دجانة سماك بن خرشة فقال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه ، فما حقه؟ قال: "ألا تقتل به مسلمًا ولا تفر به عن كافر" قال: فدفعه إليه وكان إذا كان أراد القتال أعلم بعصابة.
فلما أخذ أبو دجانة السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فعصبها برأسه ، فجعل يتبختر بين الصفين ، وقال ابن إسحاق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رأى أبا دجانة يتبختر: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن".
قال: قلت: لأنظرن إليه اليوم كيف يصنع؟ قال: فجعل لا يرتفع له شيء إلا هتكه و أفراه حتى انتهى إلى نسوة في سفح الجبل معهن دفوف ، فأهوى بالسيف إلى امرأة ليضربها ، ثم كف عنها ، فلما انكشف له القتال ، قلت له: كل عملك قد رأيت ، ما خلا رفعك السيف على المرأة لم تضربها ، قال: إني والله أكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل به امرأة.
ولما أحاط مشركو قريش بالمسلمين وأوسعوهم قتلا وأثخنوهم بالجراح، وقف أبو دجانة مدافعا عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، فاحتضن جسده الشريف كى يقيه من السهام والرماح حتى أصبح ظهره كالقنفد من كثرة تلك الرميات، ونجى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان فارس الشارة الحمراء يدرك تماما الوقت الذى يشهر فيه سيفه، فلم يكن سافكا للدماء محبا للقتل، بل مدافعا عن رسول الله والدين الحنيف.
وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، راضيًا عن أبى دجانة، فواصل الجهاد فى عهد أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، مشاركا فى حروب الردة، وكان على طليعة جيش اليمامة الذى أرسله خليفة رسول الله لحرب مسيلمة الكذاب، الذى ادعى النبوة، وأصبح خطرا يهدد الإسلام بأقواله الباطلة ودعواته التى تحض على العنف والكراهية .
وحينما حاصر المسلمون مسيلمة فى سور حديقته، امتطى أبو دجانة سور الحديقة بشجاعة منقطعة النظير، وأخذ يضرب أنصار مسيلمة بسيفه الذى قلده إياه النبى، فسقط جريحا، إلا أن المسلمين تمكنوا أخيرا من هزيمة مسيلمة الكذاب وقتله والتخلص من دعواه الباطلة ، وعن قتادة بن النعمان قال: كنت نصب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أقي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهي ، وكان أبو دجانة سماك بن خرشة موقيًا لظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره ، حتى امتلأ ظهره سهامًا وكان ذلك يوم أحد.
وكان الأسود بن المطلب منَ المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم المحاربين لدعوته؛ فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمى ويثكل ولده ، فجلس في ظل شجرة ، فجعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقها وشَوكها حتى عمي ، وقيل: أومأ إليه فعمي ، فشغله ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل ابنه معه كافرا، قتله أبو دُجانة رضي الله عنه.
وقال زيد بن أسلم: دُخل على أبي دجانة وهو مريض ، وكان وجهه يتهلل ، فقيل له: ما لوجهك يتهلل ، فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني ، أما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا ، وعن ابن عباس قال: دخل عليٌّ بسيفه على فاطمة رضي الله عنهما ، وهي تغسل الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذيه ، فلقد أحسنت به القتال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كنت قد أحسنت القتال اليوم ، فلقد أحسن سهل بن حنيف وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وأبو دجانة ".
وشهد أبو دجانه ، اليمامة ، ويقال إنه كان ممن اقتحم على بني حنيفة يومئذ الحديقة ، فانكسرت رجله فلم يزل يقاتل حتى قتل يومئذ ، وقد قتل مسيلمة وحشي بن حرب ، رماه وحشي بالحربة ، وعلاه أبو دجانة بالسيف ، وقال وحشي فربك أعلم أيُّنا قتله ، ونال أبو دجانة الشهادة كما تمناها، حيث توفى متأثرا بجراحه .
وحينما أقبلوا عليه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، قالول له "ما لوجهك يتهلل"، فقال: "ما من عملى شئ أوثق عندى من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنينى، أما الثانية فكان قلبى سليما للمسلمين" وهكذا نال أبو دجانة الشهادة مدافعا عن الدين والوطن، فلم يقتل الآمنين، ولم يروع النساء والأطفال ، بل كان فارس ، يرتدى شارته الحمراء حين يدرك حق السيف، متى يشهره فى الدفاع عن وطنه ودينه ، وتوفي أبو دجانة رضى الله عنه سنة 12هـجريه الموافق 633 ميلاديه .