إن الأرزاق بيد الله مقسومة، ومقاديرَها عند الله معلومة محسومة، وأن الفقر قد يكون أفضل لك من الغنى ، وإن من عباد الله المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى، ولو أفقره لفسد حاله ، وإن من عباد الله المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغناه لفسد حاله، وإن من عباد الله من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمه لفسد حاله ، وإن من عباد الله المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أعطاه الصحة لفسد حاله، وهكذا لله في خلقه شؤون.
وحياة الإنسان لا تدوم على حال، ولا يستقر لها قرار، وكلما تطلع المرء إلى أمر طلب غيره، وكلما كان على حال تاقت نفسه إلى حال أخرى، وكلما اشتهى شيئاً وحصل عليه سعى إلى غيره، وكلما وصل إلى منصب أو مكانة طمع في غيرها ، وقد نتج عن هذه الحال الكثير من أمراض النفس البشرية ، كالهموم والأحزان والقلق والاضطرابات وعدم الاستقرار والمشاكل والصراعات، والحروب بين الناس، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان وتعديه على نفسه وماله وعرضه.
وقد جاء الإسلام بعلاج لهذه النفسيات وهذه الآثار والنتائج، وذلك بتوحيد الله بأسمائه وصفاته، وتحقيق عبودية الرضا بما قسم الله للعباد من أرزاق وأقدار وأحوال وابتلاءات ، وإن الرضا يعني سكون القلب إلى اختيار الرب عز وجل وهو قبول حكم الله في السراء والضراء، والعلم أن ما قسمه الله هو الخير كله ، وقد بيَّن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن الغنى الحقيقي والسعادة والراحة يكمن في الرضا فقال عليه الصلاه والسلام "ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس" رواه الترمذي .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ” يقول العبد مالي مالي و إنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو تصدق فأمضى ، وما سوى ذلك فذاهب و تاركه للناس” رواه مسلم .
فإذا رأيت من هو أكثر منك مالا ، أو ولدا فاعلم أن هناك من أنت أكثر منه مالا، وولدا أيضا فانظر إلى من أنت فوقه ، و لا تنظر إلى من هو فوقك ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ” انظروا إلى من هو أسفل منكم ، و لا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدر أن تزدروا نعمة الله عليكم “.
وقال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام "ليس الغنى كثرة العرض المال، ولكن الغنى غنى النفس" رواه مسلم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان لابن آدم واديانِ من مالٍ لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب" متفق عليه .
وإن الرضا يعني سكون القلب إلى اختيار الرب عز وجل وهو قبول حكم الله في السراء والضراء، والعلم أن ما قسمه الله هو الخير كله، وليس الرضا هو الاستسلام لواقع يمكن تغييره بالسعي، والأخذ بالأسباب؛ كالتداوي من مرض، أو السعي وراء الرزق، أو دفع ضرر ما ، لأن الاستسلام هو الانهزام وعدم بذل الجهد والأخذ بالأسباب لتحقيق الهدف ، إنما الرضا باستفراغك الوسع، وبذل الجهد والأسباب في تحقيق الهدف، لكن لم توفق إليه، فترضى بما قسم الله لك من غير جزع، أو ضجر، أو سخط ، كالذي تزوج ولم يرزق الولد رغم سعيه للعلاج، والذي أصيب بمرض لم يستطع دفعه بالدواء، والذي ابتلاه الله بالفقر وضيق ذات اليد، فاجتهد في تحصيل الغنى فلم يوفق .
وإن السخط والجزع وعدم الرضا على قضاء الله وقدره، وبما قسمه للعباد لا يزيد المرء إلا شقاء وتعاسةً وبُعداً عن الله، ويحرم صاحبه من راحة البال وطمأنينة النفس، ولذا قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم "إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" رواه البخاري.
ولو رضيت بما قسم الله لك؟ ونظرت إلى نعم الله عليك بالرضا والشكر ، عندها فقط تنـزاح عنك الكثير من هموم الحياة؛ فما أجمل الرضا ، إنه مصدر السعادة وهدوء البال ، والرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنىً وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظُّه من الرضا، امتلأ قلبه بضدِ ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه .
ولو بسط الله الرزق لعباده ، فوسعه وكثره عندهم لبغوا، فتجاوزوا الحدّ الذي حدّه الله لهم إلى غير الذي حدّه لهم في بلاده بركوبهم في الأرض ما حظره عليهم ، ولكنه ينـزل رزقهم بقدر لكفايتهم الذي يشاء منه ، ومعنى الآية هو أنه لو جعل الله عز وجل جميع الناس في بسطة من الرزق لاختلّ نظام حياتهم ببغي بعضهم على بعض ، والله منعك ليعطيك ، منعك شيئاً ليعطيك أفضل منه..
وإن الأرزاق مكفولة، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فكيف يبتغي بعض الناس الزيادة بالطرق الحرام، أو بالاعتداء على الأبرياء بسرقة أموالهم، أو التحايل على ما في أيديهم، أو ظلمهم والاعتداء عليهم، أو إشهار السلاح في وجوههم، أو قَطْع طريقهم، مما أصبحنا نسمع به في الصباح والمساء؟ ويقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ”ولا يحملن أحدَكم، استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى :” لا ينال ما عنده إلا بطاعته” رواه مسلم .
وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها، وإذا حصلت له ينفقها هكذا، و هكذا في طاعة الله ،و لم يدخر لنفسه شيئا لغد ، وهو الذى قال ” إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا ، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال بركات الأرض” .
و كان الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة ، لأنهم يعلمون أنه لا عيش إلا عيش الآخرة ، و قال الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم ” يقول الله تعالى “يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى ، و أسد فقرك، و إن لم تفعل ملأت صدرك شغلا و لم أسد فقرك “ رواه الترمذي .