فهم هياكل السلطة المجتمعية

فهم هياكل السلطة المجتمعية

خلق المولى عزّ و جلّ الإنسان لغايات و أهداف و جعله خليفة له في الأرض و مؤتمنا عليها ليعمّرها و ينشر العدل فيها و يزرع قيم الإنسانية، و سخّر له موارد لا تحصى و لا تعد إذ سخّر له ما في السماوات و ما في الأرض و ما بينهما و صوّره بأحسن صورة و أحسن تقويم و ميّزه بملكة العقل عن سائر مخلوقاته ليستطيع تحقيق الغايات و الأهداف التي خلق من أجلها و لكي يسيطر على نزواته و غرائزه و يتحكم في إنفعالاته و ردّات أفعاله.

كما جعل المولى عزّ و جلّ الإنسان كائن إجتماعي في حاجة إلى بناء علاقات إجتماعية نفعية و بحاجة إلى الإنتماء لجماعة ما فكانت البداية بثنائية الذكر و الأنثى و تطوّرت إلى الأسرة ثم العائلة لتتخذ أشكالا أكثر تطوّرا مجتمعات من شعوب و قبائل إذ يقول المولى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم} و تواجده في جماعة مهما كان شكلها أو نوعها (أسرة، عشيرة، قبيلة، طائفة،…) يحقّق له الأمان و نوع من الإستقرار ضمن قواعد ونظم منظّمة لحياة تلك الجماعة و يخضع لها الجميع دون إستثناء.. تطوّرت تلك القواعد و النظم عبر التاريخ مع تطوّر الإنسان لتصبح تشريعات و قوانين و دساتير و تلك الجماعات الصغيرة المتفرّقة أصبحت تنتمي لأوطان و دول و أصبح هناك حكّام و مواطنين و بات من الضروري إستيعاب تلك التحوّلات و التطوّرات في تاريخ الإنسانية.

كما أصبحت المجتمعات المعاصرة مجتمعات مختلطة و متعدّدة الأعراق و الأجناس و المذاهب و القوميات والثقافات و العادات و التقاليد و الأعراف، و رغم تلك الإختلافات إلا أنّها تتعايش مع بعضها البعض تعايشا سلميّا في إطار تقبّل الآخر على إختلافه الفكري و العرقي و الديني و العقائدي، فكان الحوار و التوافق و الإلتفاف حول المصالح المشتركة والمشاركة في إيجاد الحلول للمشاكل المجتمعية و المشاركة أيضا في إتخاذ القرار و تقرير المصير بهدف تحسين الظروف المعيشية و الخدمات و تحمّل جانب من المسؤولية في إحداث التغيير الإيجابي في المجتمع، هذا ما يعرف بتنظيم المجتمع Community Organisation و الذي عرّفه ولسون كونوفر بأنّه : ” محاولة إستثمار الموارد المتاحة لمواجهة المشكلات الناجمة عن عدم إشباع الإحتياجات الإجتماعية و البيولوجية و النفسية لأفراد و جماعات المجتمع، و تعديل تلك الموارد إذا كانت قد فشلت في أن تساير الإحتياجات الحالية، و تكوين موارد جديدة إذا تطلّب الأمر ذلك.”

التنظيم المجتمعي يمكن تلخيصه أيضا في منح الأشخاص القدرة على إحداث التغيير من خلال التجمّع من أجل معالجة القضايا التي تشغلهم فيشرعون في وضع الخطط لتحديد الخطوات و التدابير التي عليهم إتباعها و عادة ما يتنظّمون في شكل هيكل أو كيان قانوني غايته تحقيق أهداف المجتمع التي يحدّدها ممثّلوه.

و ممّا لا شكّ فيه أن كل مجتمع يرغب في تنظيم نفسه واستغلال موارده المتاحة لأقصى حد ممكن ولكن قد تعترضه عوامل و صعوبات كثيرة تعيق هذه الرغبة، كما أن وجود أي تنظيم مجتمعي مهما كان شكله لا يعني بأي حالٍ من الأحوال فعالية هذا التنظيم لإفتقاره للمشاركة الفاعلة و الرغبة الحقيقية في تنمية المجتمعات المحلية أي المشاركة المواطنية التي أشارت إليها شيري آرننشتاين ” قوّة المواطن بمعنى إعادة توزيع القوّة التي تمكّن المواطنين الذين لا يملكون القوّة (المهمشين، المستضعفين) الذين هم مستبعدون حاليا من العمليات السياسية و الإقتصادية ، من أن يدرجوا عمدا في المستقبل، هي الإستراتيجية التي ينضمّ بها المهمشين (المستضعفون) في تحديد كيفية تقاسم المعلومات، و وضع الأهداف و السياسات، و تخصيص الموارد الضريبية، و تشغيل البرامج، و تقسيم المزايا، بإختصار إنها الوسيلة التي تمكنهم من إحداث إصلاح كبير، و التي تمكّنهم من المشاركة في فوائد المجتمع الغني.” و هنا يأتي دور منظّم المجتمع الذي تقع عليه مهمّة تفعيل هذه القوّة و هذه المشاركة المواطنية فدوره ليس سهلا لهذا يجب أن تتوفّر فيه جمله من الشروط و المواصفات منها أن :

1. يملك مهارة التواصل مع الأفراد والمجموعات والمؤسسات المحلية.

2. يحب العمل الطوعي غير النفعي.

3. يتصف بالحياد و الموضوعية و يتميز بروح المبادرة الذاتية.

4. يكون محل ثقة ويحظى باحترام الآخرين.

5. يملك الاستعداد الكامل للتعرف على مشاكل المجتمعات و ملتزم بالعمل معهم.

6. معرفة ثقافة المجتمعات التي يعمل معها.

7. يمتلك المعارف والمهارات التنظيمية اللازمة.

8. من الأفضل أن يكون من أبناء المنطقة ولديه خبرة في التعامل مع الجهات المحلية.

هذه المواصفات ستساعده في أداء أدواره الثلاث التالية :

1. منشط لأفراد المجتمع : تنشيط و تحفيز المجتمع لتكوين تنظيمات مجتمعية.

2. ناصح لأفراد المجتمع : يشارك في تحديد الموارد وتقييم الوضع وترتيب المشاكل و المساعدة في إيجاد الحلول إن تعسّر على المجموعة ذلك.

3. وسيط : يمثّل حلقة الوصل بين المجتمع والمؤسسات التنموية والمحلية و السلط المعنية.

هذا بالنسبة لتنظيم المجتمعات المحليّة، لكن ماذا بشأن الأمّة أو الشعب الذي توحّدت مطالبه و لم يجد آذانا صاغية من حكوماته ؟ هل ينتفض أم يسكت ؟ هل يستخدم حقّه المشروع في تقرير المصير؟ هل يستخدم سلطته الشعبية المشروعة و المشرّعة في الدستور ؟

الأوْلَى أن نعرف ما المقصود بالسلطة حتى يتضح لنا كيف يستطيع الشعب ممارسة سلطته، السلطة Authority في مفهومها العام تعني التأثير بإستخدام القوّة الشرعية على مجموعة من الأفراد أو الجهات وفقا لمجموعة من القواعد القانونية و الأحكام التشريعية… من خلال هذا التعريف يمكن للشعب إستخدام هذه السلطة بإعتباره صاحب السيادة و مصدر السلطات وفقا لما يمنحه له الدستور من حق ففي الدستور التونسي و تحديدا في الفصل الثالث منه : “الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات، يمارسها بواسطة ممثليه المنتخبين أو عبر الاستفتاء ” و في الدستور الليبي لسنة 1951 و تحديدا المادة أربعين منه ” السيادة للأمة و الأمة مصدر السلطات” و في أغلب دساتير العالم نجدها تتفق و تتوحّد من هذه الناحية و لكن كيف يمكن للشعب أن يمارس سلطته أو كيف سيعبّر عن نفسه ؟ الإجابة إما بممارسة الحق الإنتخابي أو بإستخدام سلطة الشارع.

بالنسبة للنهج الأوّل ألا و هو المشاركة في الإنتخابات لتقرير المصير و إختيار من يعتبرونه الأكفأ في إدارة شؤونهم و هو الطريق الأمثل و الأسلم المتّبع في البلدان التي تحترم قيم و مبادئ الديمقراطية، سأضرب مثالا هنا شهدت تونس من أشهر قليلة إنتخابات رئاسية و تشريعية و كانت هناك ترشّحات عديدة جدا في كلتاهما : ففي الإنتخابات الرئاسية ترشّح 26 مرشّحا و في الإنتخابات التشريعية حوالي 1503 قائمة موزّعة على الدوائر الإنتخابية داخل التراب التونسي و خارجه و كان المواطن التونسي أمام “بوفيه مفتوح” من الخيارات ففي ورقة التصويت الناخب وجد نفسه أمام كم هائل من الإختيارات و لكن أن يجد المواطن هذا البوفيه المفتوح أفضل بكثير من إختيار وحيد و مرشّح واحد لا ثاني له كما كان الحال في نظام بن علي و أيضا في أغلب الأنظمة العربية الحاكمة.

أما النهج الثاني و هو سلطة الشارع المقصود به إستخدام الشارع كفضاء للإحتجاج كطريقة للتعبير و لإيصال الأصوات دعما أو رفضا لقضية ما سياسية كانت أو إجتماعية أو حقوقية.. سلطة الشارع بالنسبة للشعب هي وسيلة ناجعة في أغلب الأوقات و هي خدمة مجانية ممنوحة للسلطة الحاكمة حتى تراجع سياساتها و تقوّم مسارها و لكن عادة لا يُنظر للإحتجاجات بهذه الطريقة خاصة من طرف الأنظمة العربية فيطلقون عليها عصيان مدني و إنفلات أمني لا يهدف إلا لزعزعة الأمن و استقرار البلاد.

هذه الإحتجاجات عادة ما تكون سلمية إلا أنّها قد تتحوّل إلى صراع بين المحتجين و قوات الأمن… و تكون النتيجة ضحايا و إعتقالات، قد تتمكّن قوات الأمن من إخماد أصوات المحتجين و تفرض سيطرتها عليهم و تتمكّن من تفريقهم الذي عادة ما يكون بأساليب عنيفة (قنابل مسيلة للدموع، الضرب، الرصاص الحي،…) و قد تنفلت الأوضاع و بدل إخماد الأصوات تتعالى و تتعالى إلى أن تستطيع أن تسقط أنظمة ديكتاتورية كالإحتجاج الذي أسقط الإتحاد السوفيتي ( 1989-1990) و أيضا الثورة التونسية التي أطاحت بنظام بن علي (2010-2011) و ثورة 25 يناير بالجمهورية المصرية التي أزالت نظام مبارك،.. و غيرها من التحرّكات الشعبية الحديثة المستمرّة و المتواصلة.

كلا الطريقين : الإنتخاب أو الإحتجاج سلاحين ذو حدّين و لكن لا يمكن الإستغناء عن أحدهما أو كلاهما فوجودهما يمثّل دليلا واضحا عن وجود مجتمعات حيّة نشيطة و واعية بسلطتها و قوّتها و قدرتها على إحداث تغييرات محورية في تاريخ الإنسانية..

الكلمات المفتاحية السلطة المجتمعية

مقالات مشابهه

من قسم آخر


التعليقات

ضعي تعليقَكِ هنا

التقيمات

راديو القمة

radio

الأكثر قراءة

فيس بوك

a
;