إن تقارب الوقت والزمن وسرعة مروره دون فائدة علامة على قرب الساعة ، وإن الإنسان الذي يريد أن يستثمر وقته خلال حياته لابد أن يهتم بأن يضع لنفسه خطة يسير عليها خلال هذا العمر الثمين ، وكلما كان الإنسان أكثر عقلا وأعظم ادراكاً ، استطاع فعلا أن يستثمر هذا الوقت الذي بين يديه، وأحياناً يضيع الوقت ومع ذلك يفوت عليك دون أن تكون فيه فائدة، ويجب أن نعلم أن أهل النار يوم القيامة يُسألون فيقال لهم كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ سيسألون عن أعمارهم التي قضوها في الدنيا هل استثمروها فيما يقربهم إلى ربهم ؟
ولنعلم جميعا أن الوقت هو رأس مال المرءِ؛ فهو حياته، فحياة الواحد منا ما هي إلا أيام وأسابيع وشهور وسنون، والمرء في هذه الحياة في تجارة مع ربه ، ثم بعد الموت يظهر الرابح من الخاسر والكل يندم ، فالمحسن يود أن لوِ ازداد في عمله، والمفرط يندم على تفريطه ويتمنى الرجعة للدنيا مرة ثانية ليستدرك ما فات .
وقد جاء في الأثر أنه “ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني لا أعود إلى يوم القيامة” ، وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: “يا ابن آدم إنما أنت أيام إذا ذهب يوم ذهب بعضك” ، وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:“ما ندمت على شيء، ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي”.
وقد اهتمّ الإسلام بالوقت وبيَّن أهميته، وذلك من خلال آيات من القرآن وأحاديث من السنة، كما جاءت كثير من العبادات لتنظيم وقت المسلم ، والخاسر في وقته إنما هو مغبون ، كالذي يبيع سلعته بأقل مما تستحق، أو يشتريها بأكثر مما تستحق ، وليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرّت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها، إذ ليس في الوجود أغلى من الوقت .
وجاءت السنة لتؤكد على أهمية الوقت وقيمة الزمن، وتقرر أن الإنسان مسئول عنه يوم القيامة، فعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لنْ تَزُولَ قَدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسْأَلَ عن أَرْبَعِ خِصالٍ عن عُمُرِهِ فيمَ أَفْناهُ ؟ وعَنْ شَبابِه فيمَ أَبْلاهُ ؟ وعَنْ َمالِهِ من أين اكْتَسَبَهُ وفيمَ أنْفَقَهُ ؟ وعَنْ علمِهِ ماذا عمِلَ فيهِ .” رواه الترمذي
وأخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن الوقت نعمة من نعم الله على خلقه ولابد للعبد من شكر النعمة وإلا سُلبت وذهبت ، وشكر نعمة الوقت يكون باستعمالها في الطاعات، واستثمارها في الباقيات الصالحات، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ” رواه البخاري .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم ( كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ) أيْ الذي يوفق لذلك قليلٌ فقد يكون الإنسانُ صحيحاً، ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا، ولا يكون صحيحا ، فإذا اجتمعا الصحةُ والفراغُ فغلب على الإنسان الكسلُ عن الطاعة فهو المغبون، والغبن أن تشتريَ بأضعافِ الثمنِ، وأن تبيعَ بأقَل مِن ثمنِ المثل .
والشخص الذي فعلا يريد أن يكون شيئاً مذكوراً لابد أن يتعب على نفسه حتى يستطيع أن يسجل في هذه الأمة ما سجله الأولون، سواء من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام أو من تبعهم بإحسان ، وإن الإنسان إذا عرف قيمة شيء ما وأهميته حرص عليه وعز عليه ضياعه وفواته، وهذا شيء بديهي، فالمسلم إذا أدرك قيمة وقته وأهميته، كان أكثر حرصاً على حفظه واغتنامه فيما يقربه من ربه .
وها هو الإمام ابن القيم رحمه الله يبين هذه الحقيقة بقوله: “وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مر السحاب، فمن كان وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته ، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير من حياته”.
وابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه وهو أعمى لما رأى الناس يخرجون إلى القتال قال: إني خارج معكم، فقالوا سبحان الله! إن الله يقول ليس على الأعمى حرج! قال: وإن كان، أخرجوني معكم وأعطوني الراية، قالوا نعطيك الراية وأنت رجل أعمى؟ قال: نعم إنما الراية تمسك ليجتمع إليها المقاتلون، فأنا امسك الراية، يمسك الراية ما يقاتل، يمسك الراية فقط، فأخرَجوه معهم وهو أعمى، لكنه استثمر قدرة عنده من شجاعة وقوة.
فلما أوقفوه في مكان الراية حفر لقدميه وأدخلهم في التراب حتى لا يبعد عن هذا المكان، وقام قائما بالراية رضي الله تعالى عنه، لم يبحث عن حجة ويقول: أنا أعمى ولا أستطيع أن أعمل، فلا حجة لفقير لا يخدم دينه ولا يطور نفسه، ولا حجة لمشغول، ولا حجة لمريض، سيسألك الله يوم القيامة عما عندك من قدرات، ولن يسألك عن غيرها.
فينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل “.
وإن الوقت أغلى من المال لأن الإنسان حينما يحرق مبلغاً كبيراً مِنَ المال يُحكَم عليه بالسفَهِ، ويُحْجَر على تصرفاتِه، ولأنه مركَّب في أعماقِ الإنسانِ أن الوقتَ أثمن مِنَ المالِ، بدليلِ أنه يبيعُ بيتَه الذي يسكنُه ولا يملكُ شيئًا سِوَاهُ ليُجريَ بثمنِه عمليةً جراحيةً، متوهما أنها تزيد في حياتِه سنوات عدة، فالوقت عندَ كل إنسان أثمن مِن المال، وبناء على هذه المُسَلَّمَةِ فإن الذي يُتلف وقتَه أشدّ سفها مِنَ الذي يُتْلِفُ مالَه.
وإضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها ، فهذه قيمة الوقت وأهميته فعلينا أن نستغل ألأوقات وأن نجعل حياتنا كلها لله، فلا نضيع من أوقاتنا ما نتحسر عليه يوم القيامة، فالوقت سريع الانقضاء فهو يمر مر السحاب .
فهيا إلى اغتنام الأوقات والعودة إلى رب الأرض والسماوات، وإياكم والتسويف فإن التسويف آفة تدمر الوقت وتقتل العمر، فقال الحسن : إياك والتسويف ، فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غداً لك فكن في غد كما كنت في اليوم ، وإن لم يكن لك غد لم تندم على ما فرطت في اليوم .