هو عبد الله ورسوله عيسى ابن مريم بنت عمران وهو آخر انبياء بني إسرائيل عيشًا في الأرض، فقال النبى عليه الصلاة والسلام “الأنبياء إخوة لعلّات دينهم واحد وأمهاتهم شتّى وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبيّ” رواه البخاري.
فنبى الله عيسى عليه الصلاة و السلام عبد من عباد الله خلقه الله تعالى وصوره في الرحم كما صور غيره من البشر، وقد خلقه تعالى من غير أب كما خلق ءادم من غير أب وأم، وقال الله عز وجل فى كتابه الكريم " إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ " سورة ءال عمران.
وأُمّ نبي الله عيسى عليه السلام هي مريم بنت عمران من سلالة نبي الله داود عليه السلام، الصدّيقة الولية البتول العذراء الطاهرة التي تربّت في بيت الفضيلة وعاشت عيشة الطهر والنزاهة والتقوى، وقد أثنى الله تبارك وتعالى عليها في القرءان الكريم في مواطن عديدة، فقال الله تعالى " وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ " سورة التحريم.
وقد كان والد مريم عليها السلام عمران رجلًا صالحًا عظيمًا وعالمًا جليلًا من علماء بني إسرائيل، وكانت زوجته عاقرًا لا تلد واسمها " حنة " وهي من العابدات، وكان زكريا نبي الله زوج أخت مريم في قول الجمهور وقيل زوج خالتها.
وقد نذرت حنة لله إن حملت لتجعلنَّ ولدها محررًا لله أي خالصًا لخدمة بيت المقدس، فاستجاب الله عز وجل دعاءها فحملت بمريم عليها السلام، فلما وضعت حملها كان الولد أنثى وكانت ترجو أن يكون الولد ذكرًا ليخدم في بيت الله عندئذ توجهت بالدعاء إلى الله تعالى، ويقول تعالى " فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ "
سورة آل عمران.
وكانت مريم ابنة عمران امرأة صالحة تقية، واجتهدت في العبادة حتى لم يكن لها نظير في النسك والعبادة، فبشرتها الملائكة باصطفاء الله لها: " وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ . يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ " سورة آل عمران
ثم بشرت الملائكة مريم بأن الله سيهب لها ولداً يخلقه بكلمة كن فيكون وهذا الولد اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وسيكون وجيهاً في الدنيا والآخرة ورسولاً إلى بني إسرائيل، ويعلم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وله من الصفات والمعجزات ما ليس لغيره، ثم أخبر الله تعالى عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام ، والله سبحانه له الكمال المطلق في الخلق، يخلق ما يشاء كيف يشاء، فقد خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وخلق حواء من ضلع آدم من أب بلا أم، و جعل نسل بني آدم من أب وأم، وخلق عيسى من أم بلا أب، فسبحان الخلاق العليم.
وقد بين الله في القرآن كيفية ولادة عيسى بياناً شافياً ، فلما بشرها جبريل عليه السلام بذلك استسلمت لقضاء الله فنفخ جبريل في جيب درعها ثم ساق الله لمريم الماء والطعام، وأمرها أن لا تكلم أحداً ثم جاءت مريم إلى قومها تحمل ولدها عيسى، فلما رأوها أعظموا أمرها جداً واستنكروه، فلم تجبهم وأشارت لهم اسألوا هذا المولود يخبركم ، فأجابهم عيسى على الفور وهو طفل في المهد " قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا . وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا . وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا . وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا " سورة مريم ..
وذلك هو خبر عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله ، ولكن أهل الكتاب اختلفوا فيه فمنهم من قال هو ابن الله ، ومنهم من قال هو ثالث ثلاثة ، ومنهم من قال هو الله ، ومنهم من قال هو عبد الله ورسوله وهذا الأخير هو القول الحق فقال الله تعالى " ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ، فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم " سورة مريم ...
ولما انحرف بنو إسرائيل عن الصراط المستقيم، وتجاوزوا حدود الله فظلموا، وأفسدوا في الأرض وأنكر فريق منهم البعث والحساب والعقاب، وانغمسوا في الشهوات والملذات غير متوقعين حساباً، حينئذ بعث الله إليهم عيسى ابن مريم رسولاً وعلمه التوراة والإنجيل ، وقد أنزل الله على عيسى ابن مريم الإنجيل هدى ونوراً، ومصدقاً لما في التوراة ، وعيسى عليه السلام قد بشر بمجيء رسول من الله يأتي من بعده اسمه أحمد وهو محمد صلى الله عليه وسلم ...
وقام عيسى عليه السلام بدعوة بني إسرائيل إلى عبادة الله وحده، والعمل بأحكام التوراة والإنجيل، وأخذ يجادلهم ويبين فساد مسلكهم، فلما رأى عنادهم وظهرت بوادر الكفر فيهم، وقف في قومه قائلاً: "من أنصاري إلى الله؟" فآمن به الحواريون وعددهم اثنا عشر، وأيد الله عيسى بمعجزات عظيمة تذكر بقدرة الله، وتربي الروح، وتبعث الإيمان بالله واليوم الآخر، فكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ويخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم فقام اليهود الذين أرسل الله إليهم عيسى بمعاداته وصرف الناس عنه وتكذيبه، وقذف أمه بالفاحشة
فلما رأوا أن الضعفاء والفقراء يؤمنون به، ويلتفون حوله حينئذ دبروا له مكيدة ليقتلوه فحرضوا الرومان عليه، وأوهموا الحاكم الروماني أن في دعوة عيسى زوالاً لملكه فأصدر أمره بالقبض على عيسى وصلبه، فألقى الله شبه عيسى على الرجل المنافق الذي وشى به فقبض عليه الجنود يظنونه عيسى فصلبوه، ونجى الله عيسى من الصلب والقتل ..
فعيسى عليه السلام لم يمت بل رفعه الله إليه، وسينزل قبل يوم القيامة ويتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، وسيكذب اليهود الذين زعموا قتل عيسى وصلبه، والنصارى الذين غلوا فيه وقالوا هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما ًمقسطاً فيكسر الصليب و يقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد " متفق عليه ..
فإذا نزل عيسى قبل يوم القيامة آمن به أهل الكتاب ، وعيسى ابن مريم عبد الله ورسوله، أرسله الله لهداية بني إسرائيل والدعوة إلى عبادة الله وحده ، والقول بأن عيسى ابن الله قول عظيم ومنكر كبير ، وعيسى ابن مريم بشر وهو عبد الله ورسوله فمن اعتقد أن المسيح عيسى ابن مريم هو الله فقد كفر ، ومن قال إن المسيح ابن الله أو ثالث ثلاثة فقد كفر ، فالمسيح ابن مريم بشر، ولد من أم، يأكل ويشرب، ويقوم وينام، ويتألم ويبكي، والإله منزه عن ذلك، فكيف يكون إلهاً؟ بل هو عبد الله ورسوله ..
وقد أفسد اليهود والنصارى والصليبيون وأتباعهم دين المسيح وحرفوا فيه وبدلوا وقالوا إن الله قدم ابنه المسيح للقتل والصلب فداءً للبشرية، فلا حرج على أحد أن يعمل ما شاء فقد تحمل عنه عيسى كل الذنوب، ونشروا ذلك بين طوائف النصارى حتى جعلوه جزءاً من عقيدتهم، وهذا كله من الباطل والكذب على الله والقول عليه بغير علم بل كل نفس بما كسبت رهينة، وحياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إن لم يكن لهم منهج يسيرون عليه، وحدود يقفون عندها.
وقد أخذ الله على النصارى الأخذ على عيسى والعمل بما جاء به، فبدلوا وحرفوا فاختلفوا ثم أعرضوا، فعاقبهم الله بالعداوة والبغضاء في الدنيا، وبالعذاب في الآخرة ، وسيقف عيسى عليه السلام يوم القيامة أمام رب العالمين فيسأله على رؤوس الأشهاد ماذا قال لبني إسرائيل وقد جعل الله في أتباع عيسى والمؤمنين رأفة ورحمة، وهم أقرب مودة لأتباع محمد من غيرهم ، وعيسى ابن مريم هو آخر أنبياء بني إسرائيل، ثم بعث الله بعده محمداً صلى الله عليه وسلم من نسل إسماعيل إلى الناس كافة، وهو آخر الأنبياء والمرسلين.
وبعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء بمائتي سنة حُرّف دينه القويم وحُرّفت معاني الإنجيل الذي أنزِل عليه، ثم عمد هؤلاء المحرّفون إلى تحريف ألفاظه فحذفوا منه أغلب الألفاظ، وصار أحدهم يكتب إنجيلًا ويقول: هذا هو الإنجيل الأصلي، حتى كثر عددها وبلغ إلى نحو سبعين كتابًا كلها باسم الإنجيل المنزل فجمعهم الملك “قسطنطين” الذي كان في الأصل وثنيًا ثم دخل في دين المحرّفين وطلب منهم أن يجمعوا أمرهم، فاتفقوا على أربعة كتب كلها فيها تحريفٌ للإنجيل الأصليّ الذي أنزل على نبيّ الله عيسى عليه السلام، ثم أحرقوا بقيّة الكتب وانقسموا نحو سبعين فرقة .
وقال الله تعالى " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ " سورة المائدة.
ثمّ بعد ذلك صار المسلمون من أتباع عيسى يفرّون بدينهم إلى الجبال يعبدون الله تعالى وحده، ومع مرور الأيام قلّوا حتى لم يبق منهم أحد بعد ذلك لا في الجبال ولا في المدن وهذا قبل بعثة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم.