في الحضارات القديمة كان ينظر لذوي الاحتياجات الخاصة علي أنهم فئة
شاذة منبوذة أما عاهتهم وإعاقتهم فهي نوع من أنواع المس الشيطاني الذي يجب التخلص منه بإلقائهم في البحر أو تركهم فوق قمم الجبال أو إلقائهم في نهر (أورتاس) أو رميهم علي قارعة الطريق كما تنص علي ذلك القوانين الرومانية.
أما نظرة أثينا الإغريقية التي تميزت بعمق فلسفي كبير وأنجبت أعظم فلاسفة العالم كأرسطو وأفلاطون فقد فضحتهم نظرتهم المريضة لذوي الاحتياجات الخاصة فقد كانت أثينا تنظر بكل احتقار وشذر واشمئزاز لذوي الاحتياجات الخاصة، فأفلاطون يعتبر وجودهم إعاقة لقيام الدولة بوظيفتها، أما الخطر الأكبر علي الدولة من وجهة نظره إذا سمحت لهم الدولة بالتناسل سيؤدي ذلك إلى إضعاف الدولة.
كما كان رافضاً لأصحاب الإعاقات العقلية ولذلك دعا إلى نفيهم خارج الدولة وعدم السماح لهم بدخولها حيث لا يبقى في الدولة سوى الأذكياء والقادرين على الإنتاج أو الدفاع أو الحكم فكانوا خارج حسابات مدينة أفلاطون الفاضلة.
أما العرب في العصر الجاهلي فقد كانت القبائل العربية تتفاخر بخلوها من أصحاب العاهات والعناصر الضعيفة باستثناء حضارة سبأ في اليمن السعيد التي قدمت بعضاً من أشكال الرعاية لذوي الاحتياجات الخاصة.
أما حضارة مصر القديمة فقد تعاملت مع ذوي الاحتياجات الخاصة بنظرة إنسانية إيجابية فلا شئ اسمه إعاقة ولايوجد شخص معاق الجميع سيان الكل متساوٍ في الحقوق والواجبات فذوو الاحتياجات الخاصة فئة عادية تمارس أعمالها ونشاطها ولايعوقها شئ حتي وصل الأمر بالكهنة في المعابد أنهم يصلون لشفاء ذوي الاحتياجات الخاصة.
فهاهم الأقزام مثلاً الذين كانوا يمثلون البهجة والمتعة والأمل والابتسامة وكانوا صناع السعادة في مصر القديمة،
اشتهروا بصناعة الحلي في مصر القديمة نظرا لصغر أطرافهم التي كانت تمكنهم من تشكيل الحلي بسهولة ويسر يؤكد لنا ذلك أحد المناظر المصورة على جدران مقبرة (مريروكا) بمنطقة سقارة.
كان الأقزام في مصر القديمة رياحين القصور الملكية حتي وصلوا إلى أرقي المناصب كالقزم (سنب) الذي شغل العديد من المناصب حتي وصل إلي رئيس أقزام البلاط الملكي كما كان المشرف علي العناية والاهتمام بالملابس الملكية، لشهرته ونجاحه حظي بالزواج من جميلة الجميلات الكاهنة (سينينيتس)
والتي كانت أيضاً إحدى وصيفات القصر،
وكانت ذات بنية طبيعية ومازال تمثالهما الشهير المتفرد يشهد علي قصة حبهما الخالدة التي فاقت روميو وجولييت محفوظاً في المتحف المصرى بالقاهرة إلي الآن، ارتفاع التمثال 34 سم يجلس (سنيب) متربع القدمين بقامته القصيرة وبجواره زوجته الجميلة تضع يدها اليمني علي كتف زوجها الأيسر تعلو وجهها ابتسامة رضا وحب وقناعة وفي نفس الوقت فخر واعتزاز بزوجها وتحت قدم (سنب) طفلاهما، فما أجمل المصري القديم وما أعظم عبقرية المثال الذي حفظ لنا بأنامله الذهبية وثيقة حية ناطقة تشهد بالرقي والسمو الأخلاقي للحضارة المصرية القديمة، وبعد وفاة (سنب) دفن في قبر فخم قريب من هرم خوفو بجبانة الجيزة.
كان لدي ملوك مصر القديمة شغف بالأقزام والحرص علي تواجدهم في قصورهم الملكية، ففى عصر الأسرة السادسة قام الملك (بيبى الثانى) 2370 ق م. بإرسال خطاب إلى الرحالة (حرخوف) يوصيه: " تعال سريعاً إلى القصر وأحضر معك القزم الذى جئت به من أرض الأرواح حياً سالماً، وبصحة جيدة ليرقص للإله ويدخل السرور إلى قلب الملك، وإذا نزل معك إلى السفينة فعين أشخاصاً أذكياءً على جانبها لملاحظته حتى لا يقع في الماء، وإذا غفي بالليل فعين له أشخاصاً أذكياءً يحرسونه في حجرته، لأن جلالتي يحب أن يرى هذا القزم أكثر من هدايا المناجم وهدايا بلاد بونت، فإذا وصلت إلى القصر ومعك هذا القزم حياً سالماً فإن جلالتي سيمنحك أشياءً كثيرة".
من أجمل الكتب التي كتبت عن الأقزام في هذا العصر كتاب (الأقزام في مصر واليونان) للباحثة فرونيكديزين تقول فيه:
"إن الاقزام لم يكونوا مرفوضين أو منبوذين، إذا أن حجم التقدير الذي كانوا يحظون به رشحهم لمصاحبة الموتى إلى العالم الآخر فصورة قصار القامة في مصر تعكس موقفاً إيجابياً، فشذوذهم الجسماني لم يكن موضع تسامحهم فحسب بل موضع قبول وتقدير لهالة القداسة التي تحيط بهم وارتباطهم برموز دينية"
وأنا بدوري أؤكد وجهة نظر الباحثة (فرونيكديزين) أن أهم المعبودات في مصر القديمة كان للإله( بس ) الذي صوره قدماء المصريون على هيئة قزم، ليمثل عندهم رب المرح والسعادة وهو من الأرباب التي تعبد في المنازل، لـيس ذلك فقط بل وصلت العناية بالأقزام إلي أبعد الحدود فقد بني قدماء المصريين للإله (بس) معبداًخاصاً في الواحات البحرية بالصحراء الغربية المصرية.
كانت الحضارات القديمة تسلب ذوي الاحتياجات الخاصة حقهم في الحياة وبالتالي تحرم عليهم الاقتراب من حرم الأماكن المقدسة، أما في مصر القديمة فكان ذوو الاحتياجات الخاصة يدخلون المعابد ويقدمون القرابين، ُتظهر لنا الجدارية المصرية الموجودة في متحف (كارلسبرج بكوبنهاجن) التي تصور لنا واحداً من ذوي الاحتياجات الخاصة وقد كان مصاباً بشلل أطفال في إحدى ساقيه لكن ذلك لم يمنعه من الوقوف أثناء تقديم القرابين متكئاً على عصا في يد ويمسك باليد الأخرى وعاء به قرابين ويقدمه للآلهة.
أما في العالم الآخر فكانت مراسم الدفن لذوي الاحتياجات الخاصة تحظي بتقدير وتكريم شاهدنا في ذلك إحدى المقابر الفرعونية التي تعود للعصور المتأخرة بمدينة الفيوم تحتفظ بمومياء لفتاة التهم تمساح ساقيها فسبب لها إعاقة ظلت الفتاة حية لمدة شهور، وعندما ماتت قام الكهنة المحنطون بوضع ساقين صناعيتين من الخشب كبديل للحقيقيتين.
تتجسد عظمة وقوة وإنسانية الحضارة المصرية القديمة عندما نعرف أن بعضاً من ذوي الاحتياجات الخاصة وصل إلي العرش الملكي وحكم مصر الفرعونية القديمة التي كانت قوة عظمي آنذاك فمن يجلس علي عرش مصر القديمة فكأنه جلس علي عرش العالم القديم فمن يصدق أن الملك توت عنخ آمون الذي أذهلت مقبرته الملكية الذهبية العالم أجمع التي تم اكتشافها في عام 1922 كان هذا الملك الشاب من ذوي الاحتياجات الخاصة وحكم مصر وهو يعانى من مشكلة في أحد ساقية، لذلك عثرنا في مقبرته على أكثر من مائة عصا مختلفة الأشكال والأنواع وهذا مايفسر لنا لماذا كان الملك الشاب توت عنخ آمون يصور دائماً جالساً حتى وهو يصوب الرمح.
تصيبنا الدهشة عندما نعلم أن الملكة حتشبسوت التي كانت أول سيدة في العالم القديم ترتدي قفازات مطعمة بالأحجار الكريمة... تري ما السر في ذلك ؟
عندما تم الكشف عن المومياء الخاصة بها وبعد الفحص الطبي الدقيق عرفنا سر القفازات الملكية فالملكة حتشبسوت كان لديها عيب خلقي في يدها فقد اكتشفنا أن للملكة ستة أصابع في إحدى يديها فكانت ترتدي القفازات لتداري هذا العيب الخلقي.
أما الملك سيبتاح الذي كان أحد أحفاد الملك رمسيس الثاني، والذي حكم مصر في أواخر الأسرة التاسعة عشر لمدة سبع سنوات فله قصة أخري.
فقد كان هذا الملك يعاني من مرض شلل الأطفال في قدمه اليسرى مما أصابها بالقصر فتسبب ذلك في عرج الملك في مشيته ظهر ذلك جلياً من صوره وموميائه التي عثر عليها في مقبرة أمنحتب الثاني عام 1898 مع 15 مومياء أخرى.
لذلك وجدنا الحكيم آمنموبي يوصي ابنه في عصر الرعامسة، خلال القرن الرابع عشر ق م، في بردية مكتوبة إبان الأسرة الحادية والعشرين يقول في الفصل الخامس والعشرين من التعاليم مطالبًا إياه بألا يعامل ذوي الاحتياجات الخاصة بشكل مهين.
لا تسخر من أعمى ولا تهزأ من قزم ولا تحتقر الرجل الأعرج ولا تسد الطريق أمام العاجز ولا تعبس في وجوههم ولا تحقرن رجلاً بين يدي الله (المجذوب) فالرب هو خالقهم من طين وقش وهما المادتان اللتان يصنع منهما الطوب اللبن والله هو مسويه وهو يهدم ويبني كل يوم وهو يصنع ألف تابع حسب إرادته وهو قدير يحيي ويميت، ما أسعد الرجل الذي انتقل للغرب (الميت) وهو آمن في يد الإله.