تبدو الشهور المقبلة مليئة بالأحداث السياسية البارزة، لعل في مقدمتها الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في مارس من العام المقبل، فضلاً عن الانتخابات المحلية التي تكرر تأجيلها منذ سنوات نتيجة عدم صدور قانون الإدارة المحلية، والتي لم يتحدد لها موعد حتى الآن، فهي رهينة بمناقشات البرلمان للقانون، لكن في كل الأحوال فإن مصر مقبلة على مرحلة من الاستحقاقات الانتخابية التي تطرح العديد من التساؤلات عن الحياة السياسية في البلاد.
ورغم أن الجوانب السياسية لم تعد تحتل مرتبة متقدمة على سلّم أولويات المواطن المصري، بعد سنوات من الحراك المُتخم بالسياسة، والذي دفع بالمجال العام إلى حد التشبع، فضلاً عن خروج العديد من القوى والشخصيات السياسية من مشهد الأحداث، وهيمنة الهم الاقتصادي، ومتطلبات الحياة اليومية على قائمة الأولويات الجماهيرية، لكن يبقى الشأن السياسي رغم كل تلك المتغيرات محل اهتمام، سواء في الداخل أو في الخارج.
ولعل العديد من الأسئلة التي وجهت إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال فعاليات منتدى شباب العالم، الذي استضافته مدينة شرم الشيخ على مدى الأسبوع الماضي، خير دليل على هذا الاهتمام بمستقبل السياسة في مصر، خاصة من جانب وسائل الإعلام الأجنبية التي أبدت تركيزًا واضحًا على ملامح هذا المستقبل، ومصير ما يتردد عن تعديل الدستور، وإجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة، وقرار الرئيس السيسي بشأن خوضها.
ووسط ضجيج الكثير من الحملات الداعية لترشح الرئيس لفترة رئاسية ثانية، يبدو أن الرئيس قد حسم موقفه بخوض الانتخابات المقبلة، لكنه حرص أيضًا على نفي أية نية لتعديل الدستور لتغير مدة الرئاسة، وهو ما بدا رسالة للداخل والخارج على حد سواء.
فمصر التي عانت طويلاً من الاضطراب والارتباك السياسي منذ عام ٢٠١١، لا يمكن القول باطمئنان أنها وصلت إلى شاطئ الاستقرار السياسي، ومن شأن أية خطوة غير محسوبة في هذا المجال أن تؤدي إلى عواقب غير محسوبة، فضلاً عن أن هشاشة البنية السياسية المصرية تشير إلى ضرورة الحذر في اتخاذ قرارات مهمة في هذا الشأن.
وإذا كان الكثير من المراقبين يرون أن نتيجة الانتخابات الرئاسية المقبلة محسومة حتى قبل أن تنطلق، لا سيما في ظل محدودية الوجوه المرشحة لخوض المنافسة في مواجهة الرئيس السيسي، فضلاً عن حظوظ تلك الوجوه من الشعبية والقدرة على المنافسة الحقيقية، فإن كثيرًا من المتابعين يرون في انعدام تلك المنافسة يعد مؤشرًا على ما يصفونه بـ"موت السياسة"، لا سيما في ظل الحالة التي وصلت إليها الأحزاب والقوى السياسية في مصر، والتي لم تعد خافية على المشتغلين بالعمل السياسي، وربما هذا ما دفع رئيس الدولة إلى مطالبة الأحزاب وعددها يفوق المائة إلى أن تتجمع في ١٠ أو ١٥ حزبًا فاعلاً بدلاً من تلك الخريطة المتشرذمة، التي لا تمثل قيمة مضافة للعمل العام.
والحقيقة أن معاناة الحياة الحزبية في مصر لم تكن وليدة السنوات الأخيرة، بل هي امتداد لعقود من التهميش والتقييد، تحولت خلالها إلى مجرد كيانات كرتونية غائبة عن ساحة الفعل السياسي، في مقابل تغييب التيارات السياسية ذات الحضور الجماهيري بالشارع، وعندما جاءت موجة الثورة انطلاقًا من ٢٥ يناير ٢٠١١، لم تطح فقط بالنظام الحاكم آنذاك، بل أطاحت - فيما أطاحت - بالمنظومة الحزبية نفسها، فقد وجدت تلك الأحزاب القديمة نفسها حالة انكشاف سياسي أسقط عنها ورقة التوت الأخيرة، فقد كانت بعيدة عن سياق الحدث، وعاجزة عن قيادة الشارع، الذي لا يمكن للرجل العادي فيه أن يتذكر حتى أسماء خمسة من تلك الأحزاب(!).
وسط كل تلك المتغيرات تبدو الساحة السياسية خالية من اللاعبين الأساسيين، باستثناء الدولة والنظام السياسي الحاكم، الذي ربما يجد نفسه مضطرًّا لصناعة منافسيه، كي لا يقف طويلاً في ساحة يملؤها الفراغ، لأن هذا سيدفع القوى المهمشة خاصة الإسلامية لملء ذلك الفراغ لتعود إلى المشهد مجددًا.