في عالمنا المعاصر الذي يشهد تطوراً تقنياً في وسائل الاتصال أصبحت الإشاعة أكثر رواجًا وأبلغ تأثيرا. وإن الصراع بين الحق والباطل مستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والباطل لا يفتر أبدا في استخدام كل وسيلة تعوق الحق عن مواصلة طريقه، وتحقيق أهدافه لتعبيد الأرض لله رب العالمين، ومن ثم فإنه يستخدم الإشاعات ويحسن صناعتها ليصد الناس عن الحق وأهله، أو ليفرق جمعه، وليثبط حماسة أتباعه، أو ليغير صدورهم تجاه بعضهم،
الشائعة تُعمي عن الحق وعن الصراط المستقيم. (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص:5]
الشائعة ضررها أشد من ضرر القتل. فالإشاعات من أهم الوسائل المؤدية إلى الفتنة والوقيعة بين الناس ويقول الله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ الْقَتْلِ)، (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لأن القتل يقع على نفس واحدة لها حرمة مصانة أما بالفتنة فيهدم بنيان الحرمة ليس لفرد وإنما لمجتمع بأسره.
الشائعة يطلقها الجبناء ،ويصدقها الأغبياء الذين لا يستخدمون عقولهم .ويستفيد منها الأذكياء .
إن نشر الإشاعات سلاح خطير يفتك بالأمة ويفرّق أهلها، ويسيء ظن بعضهم ببعض، ويفضي إلى عدم الثقة بينهم، وأسرع الأمم تصديقًا للإشاعات هي الأمم الجاهلة الفاشلة، بسذاجتها تصدّق ما يقال، وتردد الأخبار الكاذبة دون تمحيص ولا تفنيد، وأما الأمم الواعية فلا تلتفت إلى الإشاعات، وتكون مدركة لأحابيل وألاعيب المنافقين وأعداء الإسلام، فلا يؤثر على مسيرتها، ولا يهزّ أعصابها.ولذلك مطلوب منا دائمًا ولا سيما في هذه الظروف الحرجة أن نكون يدًا واحدة، أعوانًا على الخير، وأعوانًا على البر والتقوى، يكمل بعضنا نقص بعض، ويعين بعضنا بعضًا، نسعى في جمع الكلمة، ونسعى في وحدة الصف، ونسعى في لمّ الشمل.
الشائعات كم دمرت من مجتمعات و هدمت من أسر، و فرقت بين أحبة.
الشائعات كم أهدرت من أموال، و ضيعت من أوقات.
الشائعات كم أحزنت من قلوب، و أولعت من أفئدة، و أورثت من حسرة.
الشائعات كم أقلقت من أبرياء، وكم حطمت من عظماء وأشعلت نار الفتنة بين الأصفياء.
الشائعات كم نالت من علماء وعظماء؟! وكم هدّمت الشائعة من وشائج؟! وتسبّبت في جرائم؟!
الشائعات كم أثارت فتناً وبلايا، وحروباً ورزايا، وأذكت نار حروب عالمية، ، وإن الحرب أوّلها كلام، ورب مقالة شرّ أشعلت فتنا، لأن حاقداً ضخّمها ونفخ فيها.
الشائعات كم هزمت من جيوش، وكم أخّرت في سير أقوام
الشائعات ألغام معنوية، وقنابل نفسية، ورصاصات طائشة، تصيب أصحابها في مقتل، وتفعل في عرضها ما لا يفعله العدوّ بمخابراته وطابوره الخامس.
الشائعات والأراجيف تعتبر من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات والأشخاص بل قد تكون مِعْوَل هدم للدين من الداخل أو الخارج، والضرر بالدعوة والدعاة.
مِن الوسائل التي تُساعد في مُواجَهة الإشاعات أن يَعرِف الفرد أهمية الكلمة التي يَنطِق بها وخطورتها؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15]، وهي صورة فيها الخفَّة والاستهتار وقلَّة التحرُّج، وتناوُل أعظم الأمور وأَخطرها بلا مُبالاة ولا اهتِمام ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ﴾ لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبُّر، ولا تروٍّ، ولا فحص، ولا إنعام نظر، حتى لكأنَّ القول لا يمرُّ على الآذان، ولا تتملَّؤه الرؤوس، ولا تتدبَّره القلوب! ﴿ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ بأفواهكم لا بوعْيِكم ولا بعَقلِكم ولا بقَلبِكم، إنما هي كلمات تَقذِف بها الأفواه، قبل أن تستقرَّ في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول، ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا ﴾، ولقد كان ينبغي أن تجفل القُلوب من مجرَّد سماعِه، وأن تتحرَّج مِن مجرَّد النُّطق به، وأن تُنكِر أن هذا يكون موضوعًا للحديث
وقد وجَّهَنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خُطورة الكلمة؛ عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُبلِّغُني أحد مِن أصحابي عن أحدٍ شيئًا؛ فإني أحبُّ أن أَخرُج إليكم وأنا سَليم الصدْر))[14]، وجاء في الصحيحَين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - قال: ((إن العبد ليتكلَّم بالكلمة مِن رضوان الله لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يَهوي بها في نار جهنم))، وفي صحيح مسلم: ((إن العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن فيها، يزلُّ بها في النارأبعد ما بين المشرق والمغرب)).
الوعيد الشديد لمن يروِّج الإشاعات بين الناس:
وهذا ما أخبرنا به - سبحانه وتعالى - في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النور: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10]، فهذه الآيات عامَّة في كل أذًى يصيب المسلمَ أو فتنة مما يؤثِّر على أمنِه وسَعادته، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّث بكل ما سمع))
نعم؛ الإشاعات كالنار في الهشيم تأكل الأخضر واليابس؛ فعلينا جميعًا أن نتصدَّى لها.
ومَن يقرأْ تاريخ الأنبياء عليهم السلام وقصصهم مع قومهم في القرآن الكريم يَدْرِكْ أثر الشائعات وخطرها على الدعوة إلى الله، فمثلا – على سبيل المثال، لا الحصر – نوح عليه السلام رماه قومه بالضلال والجنون قال الله تعالى حكاية عنهم: ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ [سورة الأعراف : الآية 60] وفي موضع آخر: ﴿ وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [سورة القمر : الآية 9].
وهود عليه السلام اتَّهَمه قومُه بالسفاهة والكذب قال الله تعالى حكاية عنهم: ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ [سورة الأعراف : الآية 66] حتى وصل بهم الأمر إلى أن اتهموه في عقله – عياذا بالله – يقول الله جل وعلا حكاية عنهم أيضًا: ﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾ [سورة هود : الآية 54].
وموسى عليه السلام قالوا عنه: ساحر. وقد حكى الله جل وعلا وذكر ذلك على لسان فرعون: ﴿ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ [سورة الشعراء : الآية 34 – 35].
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وسيد المرسلين لم يسلم من تلك الشائعات الكاذبة الْمُلَفَّقة، فقد ابْتُلِي بحادثة الإفك، وكلنا يعلم هذه الحادثة، وكادت أن تؤثر في بعض النفوس، لولا أنَّ الله جل وعلا فضحهم وبَيَّن كذبهم، وبَرَّأ عائشة رضي الله عنها من فوق سبع سماوات، بَرَّأَها بآيات تُتْلَى إلى يومِنا هذا.
كذلك لما أشيع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أَثَّرَ ذلك على صفوف المجاهدين، والأمثلة على هذا كثيرة، ولعل من يأتي من إخواني يتحدث عنها إجمالا وتفصيلا.
وقد جاء التحذير – أيها الإخوة – من تلقف الشائعات والترويج لها صريحًا في قول الله جل وعلا: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [سورة الحجرات : الآية 6] فسمى الله ناقل الشائعة فَاسِقًا، ولا يخفى دور الفاسق في الإفساد في الأرض، وحَقٌّ على من سمع الشائعة أن يتثبت وأن يتأكد من صحة الخبر، وعليه أن يسأله نفسه هل في إعلانه مصلحة أم أن المصلحة في الكتمان؟!
ولقد جاء التحذير من الشائعة في السنة المطهرة أيضًا كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ».