هؤلاء الغرباء الممدوحون من قبل النبي عليه الصلاة والسلام، المغبوطون لقلتهم في الناس سموا غرباء، وأكثر الناس على غير هذه الصفات.
وأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع هم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء الناس غربةً، ولكن هؤلاء الغرباء هم أهل الله حقاً، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله في حقهم:
﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ )[ سورة الأنعام: 116]
أولئك هم الغرباء حقاً، غرباء من الله ورسوله، غرباء من دينه، غرباء الغربة الموحشة.
أيها الأخوة الكرام: الغربة غربة أهل الله وأهل سنته بين هؤلاء الخلق، هي الغربة التي مدحها النبي عليه الصلاة والسلام ومدح أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريباً وأنه سيعود غريباً كما بدأ، وأن أهله سيصيرون غرباء.
إذا كنت مستقيماً على أمر الله والناس يتهمونك في عقلك إن رفضت مبلغاً كبيراً فيه شبهة يحل لك كل مشكلاتك، رفضته ورعاً وخوفاً من الله عز وجل، و بدوت أمام الناس محروماً، واتهمك الناس في عقلك فأنت غريب عنهم، شيء طبيعي أن العاقل بين المجانين غريب، وأن الحكيم بين الطائشين غريب، وأن المنحرف بين المستقيمين غريب.
الغربة قد تكون في مكان دون مكان وفي وقت دون وقت
ثم إن هذه الغربة قد تزداد في مصر من الأمصار وتقل في مصر آخر، وقد تكون الغربة ذات معان متعددة: في كثرة البدع أو إنكار صلاة الجماعة أو عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن أعظمها، غربة أهل التوحيد وظهور الشرك، نسأل الله العافية. وقد يظهر الإسلام في ناحية ويكون فيها أحسن مما قبل كما هو الواقع، وقد يكون في زمان أفضل من زمان آخر.
أخبرنا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن صفات هؤلاء الغرباء، فقال - عليه الصلاة والسلام - كما عند مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطُوبى للغرباء))، وأخرجه الإمامُ أحمد وابن ماجه، بسند صحيح من حديث ابن مسعود، بزيادة في آخره، قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: ((النُّزَّاع من القبائل))" والنُّزَّاع من القبائل هم الآحاد منهم، تغرَّبوا عن قبائلهم وعشائرهم، ودخلوا في الإسلام، فكانوا هم الغرباءَ حقًّا، وأخرجه كذلك الآجُرِّيُّ بسند صحيح، وعنده: "ومن هم يا رسول الله؟ قال: ((الَّذين يُصْلِحون إذا فسد الناس))"، وأخرجه أحْمد والطبراني من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "((طوبى للغرباء))، قلنا: وما الغرباء؟ قال: ((قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير، مَنْ يَعصيهِمْ أكثَرُ مِمَّن يُطيعهم))"، وصححه غيرُ واحد، قال ابن رجب: "وهؤلاء الغرباء قسمان:
أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس.
والثاني: من يُصلح ما أفسد الناس، وهو أعلى القسمين وأفضلهما".
غربة الإسلام التي دل عليها الحديث ترجع إلى أسباب منها :
1. قلة أهله وندرتهم حتى يكونوا في بعض البلاد كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود .
2. ذهاب العلماء والدعاة والمصلحين الذين يدعون إلى الله على بصيرة لإحياء السنة وتبصير الناس في دينهم .
3. كثرة البدع التي عمت وطمت حتى بلغ الأمر بالناس إلى أن تنقلب مفاهيمهم وتنعكس أمورهم حتى يروا السنة بدعة والبدعة سنة .
4. سكوت من بقي من العلماء عن المنكرات والبدع والمعاصي مجاملة أو مجاراة للعامة ، أو خوفاً على مناصبهم ومكانتهم ومصالحهم .
5. الجهل بأحكام الدين ، والبعد عن تعاليمه القيمة التي تنير السبيل وتقضي على كل دخيل .
6. الاشتغال بالدنيا ومظاهرها البراقة والتهافت عليها تهافت الفراش على النار وإيثار العاجلة على الآجلة الأمر الذي يبعد المسلمين عن العمل لآخرتهم ومستقبلهم الأبدي .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم ) .
وقال يوسف بن أسباط : إذا بلغك عن رجل بالمشرق أنه صاحب سنة فابعث إليه بالسلام فقد قل أهل السنة ) .
وقال سفيان الثوري : ( استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء ) .
وقال أبو بكر بن عياش : ( السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان ) .
((إنَّ هناك عدة أسباب أدت إلى غربة السنة))
فمن ذلك:
أولاً: (الجهل بالسنن)
قال الشاطبي رحمه الله: (سبب الخروج عن السنة الجهل بها، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة أنه غير صاحبها، ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله )
ثانياً: (التعصب المذهبي)
قد يؤدي التعصب إلى المذهب إلى مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل وصل الأمر ببعضهم أن يكون المذهب وقول الإمام هو الأصل، والقرآن والسنة هي الفرع.
ثالثاً: (الانبهار بحضارة الغرب الكافر والهزيمة النفسية)
أدى هذا السبب إلى ترك بعض السنن النبوية، خاصة في هذا الزمن الذي غزا الإعلام الغربي ديار الإسلام وهيمن عليها، فأصبح يصور للناس أن ما خالف حضارتهم فيعد تخلف ورجعية، وتقهقر ووحشية، ورجوع إلى العصور الحجرية، فإذا بفئام من الناس تستحي أن تطبق سنة النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن يوصموا بهذه الصفات،
رابعاً: عدم تعظيم السنة في قلوب الناس.
ً، ولذلك جاءت أقوال السلف في بيان عظمة السنة ووجوب الأخذ بها، والتشديد في من تهاون بها، فمن ذلك ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر؟
وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
خامساً: خوف العجب والشهرة
: فبعض الناس قد يترك السنة في زمن الغربة خوفا من فساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة المنهي عنها!! فكأنه يقول: أترك السنة في زمان الغربة خوف الشهرة ودخول العجب!! وهذا لاشك خطأ فادح، فلو قلنا به لترك كثير من الأحكام الشرعية بحجة خوف العجب والشهرة، وكما قيل ترك العمل من أجل الناس شرك، والعمل من أجل الناس رياء.
سادساً: عدم وجود من يعمل بها:
فيخشى من يطبقها الإنكار عليه، وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام الشاطبي حينما قال: (كان بعضهم تسرد عليه الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام؛ فلا يجد له معتصما إلا أن يقول: هذا لم يقل به أحد من العلماء..
سابعاً: كثرة البدع:
فالمجتمع الذي تنتشر فيه البدع تغيب فيه السنن حتى تصبح السنة غريبة،