ماالذي يدعو الناس الى اتباع حزب ما ؟ او بالأحرى هل تأسيس أي حزب سببه حاجة الناس إليه ؟ لعل القومية هي أقدم حزب بشري نتج عن تجمع قوم تربطهم القرابة ، ولعل القومية الحزب الوحيد الذي لبس جميع الازمنة وفي كل زمانٍ حلّة جديدة ! وهو الحلقة الاقوى في كل عصر وان ضعف يتحول الى تلك الدودة التي تقضم الخشب لتبيض في لبه ثم تنخره ليقع مع أول هبّة ريح ! القومية هي التي قاومت المصلحين ! في كل زمان ، القومية على انها اقرب للاصلاح ( وانذر عشيرتك) لكنها سرعان ماتلتف حول اي تغير لتعود هي الآمر الناهي ( الجبت والطاغوت) .
قد يتصور البعض ان اوربا ودول امريكا الشمالية قد تخلصت من القومية وان الولايات المتحدة اعلى ذروة مختفية فيها لكن كل من تصور ذلك فهو مخطيء، فلمتأمل باوربا وامريكا يجد القومية واضحة بل حاكمة ، حتى الدين هو عبارة عن لفيف قومي وليس دين بمعنى الرؤية الحقيقية له ، فعبارة الدين نفي لوجود الارض والحدود والتقاليد وزرع وتطبيق مباديء جديدة سامية لخصت بالمعاملات ( لا ضرر ولا ضرار) ،وان الغاية الاساسية فيه الانسان واهم شيء فيه الخير والشر يدفع ( ادفع السيئة بالحسنة) معايير سامية جدا لكن الدين جاء حمّال أوجه ، فيهم من جيره لوجه ، وفيهم من لم يفهمه، فكان ( مثلهم كحمار يحمل اسفارا) فأخذت تحمله القومية بل حتى الشيوعية قد حملت القرآن في ايدلوجيتها من خلال اثبات اشتراكية القرآن ، واشتراكية الأسلام ،وبما ان القومية لم تختف في القرآن بل جاءت لتعزيز الروابط وصلة الرحم والخير حتى وصلت ذروتها ان التشبيه الحاصل بين المؤمنين هي ربط دموي ( إنما المؤمنون أخوة) ، لكن تبقى القومية هي التي جيرت الدين لها وليس الدين من جير القومية ففي آخر نفس للرسول ص في الدنيا، ارتقت القومية الى اعلى منابرها ( منكم امير ومنا امير ) مما يدل ان الدين لم يستطع ان يمحوها ولا يقيّدها ولا يجيّرها ولايهذبها الا عند قلّة جدا عندما انتقل النبي ص لم يستطيعوا بالمعيار الدين ان يقوموا بدوره وتحول الدين الى هذه اللحظة أداة طيعة بيد القومية ، التي جرّت مصائب كبرى على الدول وخرج ملوك وسلاطين وامراء وولاة ماهم الا حزب قومي يحكم باسم الخليفة او السلطان او الملك او الرئيس او رئيس وزراء .... الخ من المسميات البراقة التي تحمل نفس الاهداف والمباديء والقيم وتختلف على الارض بالقوة والدم والحديد.
لا فرق اليوم بين الملكية او المشيخة او الجمهورية او الفدرالية في العرب بل ان الحزب - أي حزب يميني اويساري - هو عبارة عن ملكية صغيرة او مشيخة عشيرة مجرد قوم بدأوا يتاورث الابناء من الاباء تحت مسميات دينية وديمقراطية وحرية وعلمانية ووو ، لكن بالحقيقة هو تعبير قومي ، دفعتهم مصلحة الدين او العرق او المظلومية فكانوا قوما يوّرث الاب ابنه ، ويحكم بعضهم بعض وهم يحكمون الجميع اذا تسلطوا ...
لذا نرى ان القومية تأتي احيانا بلباس الدين لانها جيرت الدين ولا عودة للدين ابدا ضمن قواعد القومية وماتركته من آثار في تراث الدين الذي كل ما مر زمن زاد الدين تجير للقومية بعد اخراج علماء صاروا مثالا يحتذي به التابعون.. وصار عملهم اقرار وقولهم حجة.
اليوم جاءت قومية في جنوب العراق ، بلباس جديد يختلف عما سبقها من القوميات وهي تتقوقع ضمن جد واحد وكأنها شريكة في قوميتها باسرائيل التي تختلت تحت الدين ، وهنا تتختل ضمن العربية ، وهي في دعوتها غريبة لكشف منبع مهم جدا فيها فلم تتركه غامضا فهي صرحت بجملتين ، الأولى : انها تضم ابناء ( مـعــد ) .
والأخرى : انها فتحت بنك ( حساب مادي للتبرع ).
والعجيب من الجملة الاولى تحجيم الانتماء بما يعني اختصار الحزب على ابناء جلدة واحدة ، والجملة الثانية ،تجعل الناس في نفور منها وخاصة دعوة المال ، لان المواطن يبادر لذهنه يعطي ولايأخذ واذا الحركة من بدايتها جاءت بسلب الأموال فاذا تمكنت ماذا تعمل ؟.
العجيب من امر هذه الحركة انها استخدمت الجاموس والفالة والمگوار شعارا لها ، وكأنها تعيد الناس لعصر التخلف والوراء والعنصرية والتحجم ، ونحن في عصر التطور الثقافي والعلمي ، لم تتخذ المدرسة او العلم او جزء من العلم كالصاروخ اوالبندقية شعارا ، وهذا يدل على مستويين :
الاول : انها حركة شباب غير واعي ولا يهتم بالوعي كرد فعل من اهمال الدولة لجنوب العراق ، وخاصة انها نبعت من الأهوار التي كانت معقلا مهما للمعارضة الذي عجز عنه النظام الديكتاتوري بكل جبروته من اذلاله او اذعانه او كسبه ، وانها ردة فعل من نكران ذلك النضال ، وان الذين اخذوا الخدمة الجهادية لايعودون اليه وارادوا ان يميزوا نفسهم بالجاموس وهو شعار يدل ان الحركة من هنا حصرا ، وان هذه القوى ستعيد نفسها معارضة من دون التفاف الى انتماء الدولة الديني او الوطني او المذهبي او القومي او الحزبي، وهذا يعني ان المستقبل العراقي ينوء بنفسه عن العالم وان التشقق والتصدع سيكون من كل جانب اذا لم يعِ حكام الصدفة ان الله وهبهم حكم وعليهم ادارته بالعدل ، ويظهر من الجاموس كشعار وقرونه المخيفة والفالة والمگوار واختفاء اي رمز ديني او مذهبي ان الدين او المذهب او الطائفة ، لاتعني شيئا واذا وقف احد منهم سيكون عدوا لهم .
المستوى الثاني : انها حركة واعية جدا ولها اجندات خارجية قامت بانتاج هذا الفكر لاسباب تتعلق بما تطويه تلك الدولة التي انشأت هذا او ذلك الحزب الممول لها ، وهي بنفس الإشعار يدل على معارضة قائمة على قومية واحدة من دون اهمية للدين او اي مشترك وهذا ما يجعلها خطرة اي يمكن لمن يديرها ان يلعب بورقة لايظهر عليها اي قلم يكتب فيها اسطر تخصه ان كان دينا او وطنا او علما ، لانها اغلقت منافذها حول نفسها واصبحت تخص وعي خاص وتحرك من داخل هذا الوعي بواسطة المنشأ ، وان الاتباع لايعوا الا حقوقهم المسلوبة من العراق الذي تحول الى حصص خاصة وانتاج خاص.
قد تكون الحركة ( الــمــعـــديـة) حركة شباب لادخل لهم بالسياسة او تكون عصابة تريد مالا او تكون حركة عفوية لكن بكل الاحوال اذا صارت حاضنة لدولة سيفقس بيضها وستكون الطيور غربانا وعقبانا لايأكلون الا اللحم ولا يشربون الا الدم ، فعلى الدولة الانتباه وعلى رجال الدين الانتباه ، وعلى المجتمع وهو عليه الاعتماد ان يعي ان كل حزب قومي مهما كان سيخلق ازمة ولايحل ازمة ، لانه سيبقى التكافؤ ( منا امير ومنكم امير ).
قد يثير الشعار استغرابا ، ربما انه من شخص واعي جدا وكأنه يثقف له ان المجتمع الذي يرعى الجاموس ويعيش عليه وارضهم ومقرهم وبيوتهم ستزول ، وكأنما يرفع سنبلة للفلاح ومطرقة ومنجل كما فعل الحزب الشيوعي ، وهو يشابهه بالافكار من حيث الشعار وخلوه من الدين ، واشارة الفالة التي ترمز للصياد والمگوار سلاحه الوحيد ، تراث يراد به النهوض بطريقة مختلف .
وقد تكون من جهل فلاتعني شيء غير تخبط وقد تأتي بمردود عكسي كأنه لاتوجد شعار لا الجاموس لم يضع مضيفا او اشارة الى كرم او نضال او عزة او كرامة مما يجعل العرب يبتعدون عنه ، في النهاية هي جزء من محاولة في عمق الجنوب العراقي ان نمت بذرتها واستفحلت يرجع العراق الى عهد ( منا امير ومنكم امير) حين يسود معد من جديد بابناءه تحت قرن الجاموس.