تمتلكُ إريتريا موقعًا استراتيجيًا هامًا عبر مُختلف الأزمنة التاريخيّة، هذا الموقع المُتميِّز أعطى لها أهميّةً واهتمامًا على المُستوى الإقليميّ والدوليّ، باعتبارها تقع في مَنطقة صراع استراتيجيّ دائم خلال مُختلف العصور، وأعطى الموقعُ شخصيّةً خاصةً لسكانها، فأثَّر في تنوُّعهم وتركيبتهم ورؤيتهم وأفكارهم طوال مراحل التطوُّر السياسيّ الذي حدث لإريتريا، والذي شهد مراحل تطوُّر مُتنوّعة بدأت منذ زمن بعيد، عند مجيء الغزاة عبر البحار من إغريق ورومان وفرس وبرتغاليين وأتراك ومصريين – على التوالي – حيث استولوا على شواطئ البحر الأحمر واحدة تلو الأخرى وبصورة متواصلة، حتى وصل الاستعمارُ الإيطالي وأحكمَ سيطرته على إريتريا منذ العام 1890، مع إعلان إريتريا مُستعمرة إيطاليّة حتى هزيمة إيطاليا في الحرب العالميّة الثانيّة العام 1941، وبدلاً من أنْ تنال إريتريا استقلالها أسوةً ببقية المُسْتعمرات الإيطاليّة – الصومال وليبيا – احتلتها بريطانيا العام 1942، ثم ألحقت بعدها بالإمبراطورية الإثيوبيّة بقرار صادر من الأمم المُتَّحِدة، خدمة للمصالح الاستراتيجيّة الأميركيّة في العام 1952. وكان من المُتوقَّع أنْ يُقبل الشعب الإريتري الانضمامَ إلى إثيوبيا نظرًا للروابط الإثنيّة والقبليّة والتاريخيّة التي ربطت بين البلدين، وترتيبًا لتاريخ إريتريا تحت الاحتلال الأجنبي، فكان من الطبيعي أنْ يَقبَل الإريتريون البقاء تحت الوصاية الإثيوبيّة، لكن الشعب الإريتري رفض ذلك، وطالب بالاستقلال عبر كل السُبل السلميّة والدبلوماسيّة، لكنه لم يجد أي صدى لدى الدولة المُستعمرة، ولا في الإقليم ولا في دول العالم الخارجي، ولم يجد أي مسلك أمامه سوى النضال والثورة للحصول على الاستقلال، فقد خاض معارك عسكريّة ونضالات سياسيّة ودبلوماسيّة كبيرة من أجل حصوله على حق تقرير مصيره، وأطلقت أول رصاصة ضد المُحتل في العام 1961، لتعلن بداية الكفاح المُسلّح لتحرير كامل الأراضي الإريتْريّة، وظلت الثورة بنضالاتها وكفاحها مُستمرةً حتى تم التحرير في 24 مايو1991، ولم تُعلن قيام الدولة الإريتْريّة المُستقلّة إلا في 24 مايو 1993 عندما قام رئيس الحكومة المؤقتة في إريتريا آنذاك إسياس أفورقي بإعلان إريتريا دولةً مُستقلّة ذات سيادة، والتي اكتسبت الشرعية القانونيّة من خلال اعتراف المجتمع الدوليّ بها. وبدأت معها مرحلة جديدة من التطوُّر في مُختلف المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، سعت خلالها لبناء الدولة الإريتْريّة في عالم يموج بالصراعات والخلافات، وفي منطقة شهدت تحوُّلات ومواجهات وحروبًا أهلية مُمْتدة، لكنّه على الرغم من ذلك سعى الإريتريون إلى تحقيق الانسجام والتلاحم بين أفراد مُجتمعهم عبر تضييق هوة التَبايُنات الاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة والإثنيّة، وتحقيق الوحدة بين المواطنين، ووضع دستور وقوانين تُبنى على أساسها الدولة، ثُمَّ تبدأ عمليّة بناء المؤسسات التي ستتولّى إدارة الدولة وتنميتها في مُختلف المجالات؛ لتنطلق في تحقيق النمو والتنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، بحيث تستطيع أنْ تتبوّأ مكانتها في مصاف الدول المُستقلّة والتي حقَّقت النمو والرخاء لشعبها. ولتحقيق تلك الطموحات والأماني كان من الضروريّ أنْ يكون هناك تنظيمٌ سياسيٌ وطنيٌ ناجحٌ قادرٌ على العمل المُتواصل للنهوض بالدولة الوليدة، وإبراز تجربتها بصفتها آخر الدول الأفريقيّة التي نجحت في تحقيق استقلالها، هذا التنظيمُ السياسيّ تمثَّل في «الجبهة الشعبيّة لتحرير إريتريا»، التي قادت الكفاح المُسلّح خلال حرب التحرير، ونجحت خلاله في الحصول على الاستقلال وانطلقت في عملية بناء الدولة عبر مجموعةٍ كبيرة من السياسات والخطط التي تبنَّتها بهدف دفع الدولة باتجاه النمو والتنمية، ونتيجة لخبرتها النضاليّة الواسعة خلال حرب التحرير، كان لابد أنْ تتحوّل إلى مؤسَّسة سياسيّة ضخمة تتولّى تأسيس وإدارة النظام السياسيّ الإريتري، وإدارة كافة مناحي الحياة لدولة أنهكتها الحروبُ لسنوات طويلة، فنجحت في تحقيق ذلك وتحولت إلى حزبٍ سياسيّ كبيرٍ، يضم غالبيّة الشعب الإريتري بمختلف تعدداته. لذلك تُعتبر الجبهة الشعبيّة لتحرير إريتريا نموذجًا متميزًا من حركات التحرير الوطنيّة، ومن الأحزاب السياسيّة الفاعلة، هذا النموذج يستحق التوقُّف عنده ودراسته بعناية لعدة أسباب، تتعلّق بهذه الحركة الوطنيّة التي اعتبرت واحدة من أهم حركات التحرير في أفريقيا التي نجحت في تحقيق الاستقلال، حيث ولِدت في ظل تنافس نضالي مُتعَدّد وصل لمرحلة الصراع والمُواجهة العسكريّة داخل إريتريا خلال حرب التحرير. ونجحت خلال فترة قليلة في أنْ تصبح الحركة الرئيسيّة الأولى والمُؤثِّرة في مجريات الثورة، واستمر هذا النجاحُ بتحقيقها الاستقلال وطرد المحتل ووصولها للسلطة، وذلك في ظل ظروف بيئيّة وسياسيّة صعبة للغاية، فالجبهةُ الشعبيّة نشأت كوريثٍ شرعيّ لأكبر حركات التحرير الإريتْريّة التي تأسَّست منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، وواجهت بحزم وإصرار المُستعمر الإثيوبي، في ظل دعم خارجي قوي من القوى العُظمى المُنتصرة في الحرب العالميّة الثانيّة، والتي تمثَّلت في الاتحاد السوفييتي والولايات المُتَّحِدة وبريطانيا، وأيضًا في خضم مرحلة التنافس الأميركي - الروسي خلال فترة الحرب الباردة، ظل الدعم والمُساندة لإثيوبيا حتى في ظل التغيُّر الجذري في أيديولوجيّة النظام السياسيّ الإثيوبي، لم يحدث تحوُّلٌ أو تراجعٌ في دعم القوتين العظميين لها للقضاء على الثورة الإريتْريّة، ولم يكن هذا الدعم يستند على مصالح لهما فحسب، بل أن قيمهم الحقيقيّة تغاضت عن أفعالهم الواقعية في دعم وحدة إثيوبيا بأي طريقة كانت، وحتى بعد الهيمنة الأميركيّة في أعقاب انتهاء الحرب الباردة ظلّ القطبُ الواحدُ مستمرًا في دعمه للنظام الإثيوبي، وهو الأمر الذي جعل الجبهة الشعبيّة لتحرير إريتريا في مُواجهة مع القوى الكبرى العالميّة، وبالرغم من ذلك نجحت في تحقيق الاستقلال واستطاعت - منذ الاستقلال - أنْ تضع الأُسس والقواعد اللازمة التي تقوم عليها الدولة الإريتْريّة بوضعها الحالي، على الرغم من الانحياز الكامل والمُستمر ضد إريتريا لصالح أي طرفٍ يدخل في خلاف أو إشكاليّة معها، وهو ما برز في موقف الأمم المُتَّحِدة ومجلس الأمن الدوليّ الذي أصدر عقوبات صارمة ضد إريتريا بعد استقلالها، باتهامات غير مُثبتة سواء فيما يتعلق بعلاقة إريتريا بالأزمة الصوماليّة، أو بخلافاتها مع جيبوتي، أو حتى عند تجدد الصراع بينإريتريا وإثيوبيا، في كل الحالات الانحياز كان ضد إريتريا لصالح الطرف الآخر، وهو ما جعل الجبهة الشعبيّة تواجه تحدِّيات عديدة صعبة طوال العقود الماضية، وعلى الرغم من ذلك نجحت في تحقيق الأمن والاستقرار على أرضها. لذا فإننا سعينا من خلال هذه الدراسة إلى إجراء عملية بحثيّة مُفصّلة لدور الجبهة الشعبيّة لتحرير إريتريا؛ باعتبارها أكبر الفصائل التي واجهت المُستعمر الإثيوبي، واستطاعت الوصول للسُلطة وتولي مقاليد الحكم بعد الاستقلال. وتستند خطة العمل في هذه الدراسة وأفكارها الرئيسيّة على أساس النظر إلى الجبهة الشعبيّة لتحرير إريتريا على أنّها تجربة، وكأي تجربة فسوف يتم أولاً تحديد ملامحها وإطارها الفكري، وكيف كانت، ثُمَّ بعد ذلك يتم بحث إطارها الحركي ونضالها خلال فترة حرب التحرير، ثُمَّ يتمُّ بعد ذلك بحث تجربة الجبهة الشعبيّة في الحكم من خلال جهودها في إدارة شؤونها الداخليّة والخارجيّة، وأهم التحدِّيات التي واجهتها وتظل تواجهها حتى أعداد هذه الدراسة. وذلك من خلال تناول الجبهة الشعبيّة في مرحلتين رئيسيتين: الأولى: تستهدف دراسة الجبهة الشعبيّة ودورها في مرحلة الثورة، وهنا نتعرَّض إلى العديد من القضايا التي تتعلّق بأدوار الجبهة الشعبيّة كحركة تحرير، وأهمها كيفيّة تأسيس الحركة والصعوبات التي واجهتها ودورها في النضال المُسلّح، ورؤيتها لحل كافة القضايا التي كانت تهم الشعب الإريتري، والنجاح الذي حققته لتصبح الفصيل الأول والوحيد في إريتريا على الرغم من أنها آخر حركات التحرير التي تكونت خلال حرب التحرير، بالإضافة لقضايا التوفيق بين المجموعات الإثنيّة والدينيّة خلال حرب التحرير طبقًا للمثاليات التي وضعت لتنظيم الجبهة في موضع تقدير واحترام لدى غالبية الإريتريين، بالإضافة لجهود الحركة والنجاحات التي حققتها عسكريًا ودبلوماسيًا حتى تحقق الاستقلال. والثانية: دور الجبهة الشعبيّة منذ قيام الدولة الإريتْريّة حتى الوقت الحالي، لبحث خصائصها المؤسسيّة ومُمَارساتها خلال فترة الحُكم، باعتبارها الأساس في تشكيل النظام السياسيّ الراهن في إريتريا، وذلك من خلال تقديم صورة شاملة لدور الجبهة في المرحلة التي أعقبت الاستقلال، وفي عمليّة بناء الدولة الجديدة من حيث دستورها ونظامها ومؤسساتها السياسيّة، وكذلك عملية بناء الاقتصاد الإريتري وتحقيق التنمية المجتمعيّة، وأهم القضايا والإشكاليّات الأمنيّة والعسكريّة التي واجهتها، بالإضافة لدورها في إدارة الشؤون الإقليميّة والدوليّة. وأهم التحدِّيات التي واجهت الجبهة ولا تزال تواجهها في المُستقبل القريب أو البعيد، في ضوء التحولات التي حدثت في النظام السياسيّ الإريتري، والتحوُّلات التي يشهدها العالم، وصدى هذه التحوُّلات وانعكاسها على إريتريا وعلى مُستقبلها تحت إدارة الجبهة الشعبيّة للديمقراطيّة والعدالة، وجهودها في الدفع لبدء التحول نحو تحقيق أهداف التنميّة، والسعي نحو إرساء قواعد العدالة والديمقراطيّة، مع تقييم شامل لهذه التجربة.