في اطار إستراتيجية إعادة شمال إفريقيا إلى حضن اللاتينية وسَلخها عن المجموعة العربية الإسلامية تأخذ مجراها بِمَعَاوِل من داخل النظام الجزائري وليس من خارجه أو خارج البلاد مثلما سارت عليه الأمور في السابق. وهذه سابقة لن تَمُرَّ دون تداعيات على الجميع. العملية تُنفَّذ على عدة محاور، من بينها:
1 - التضييق على اللغة العربية ومحاولة كَبْح انتشارها على مراحل، قد تمتد على مدى أجيال، بتمرير المشروع عبْر الدعوة للأمازيغية، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن دعاة الأمازيغية يشتركون في نفس الغاية، ودون أن يعني ذلك أن لا أحد من دعاة الأمازيغية لا يشترك في هذه الغاية. ومن بين مؤشرات هذا النشاط على الجبهة اللغوية:
العمل في الميدان بالأحرى على تعزيز مواقع اللغة الفرنسية، التي هي اللغة الوطنية والرسمية من الناحية الفعلية، والتي تُتْرَك بعيدًا عن أضواء النقاش المحصور في الخصومة الازدواجية المفتعلة "الأمازيغية / العربية".
إقحام مُنافِس جديد للغة العربية يُسميه البعض "اللغة الجزائرية" وهو العامِّية المستخدَمة في التواصل اليومي الضيق المجال، فيما كل لغات العالم لها الصيغة الفصحى ولها صيغتها العامية دون أن ير فيها أحد أيَّ عجب ولا قال إن العامية هي "اللغة الأم" لتبرير التراجع عن الفصحى أو تقزيمها. وهو في الحقيقة مشروع استعماري فرنسي قديم لم تشهده الجزائر من قبل انطلق نهاية سنوات 1830م ودام لعدة عقود إلى غاية بدايات القرن 20م وانتهى إلى فشل، لأنه مرفوض من الجزائريين رفضًا قاطعًا.
السُّخرية والتَّنكُّت باللغة العربية الفصحى والدعاية المُقزِّمة لها لِتنفير الناس منها حتى في أبْسط شؤون الحياة اليومية لإبرازها كلغة ميِّتة وبالية ومَصْدر تخلُّف وعِلَّةِ "ظلاميةِ" الذين يستخدمونها. هذا الكلام كان يُقال في الشارع، فيما أصبح اليوم خطابا رسميا للسلطات الجزائرية أو بعضها.
المشروع يُنَفَّذ على قدمٍ وساق وبجدية وبهدوء بشكلٍ غير مُعلَن بعد إخراجه من دائرة النقاش والإعلام لتفادي ردود أفعال الجزائريين الرافضة في أغلبيتها الساحقة للمشروع، لا سيّما بعد أن تمَّ جسّ النبض بالدعاية لإطلاق دروس في المدارس الابتدائية قبل نحو عامين لتعليم "اللغة الجزائرية" المزعومة، وقوبل المشروع برفضٍ غاضب بشدة وتمَّ التخلي عنه. أما اليوم، فتم تَكْيِيفُ الإستراتيجية بالعمل قبل كل شيء على إنضاج شروط قبولها بتعويد الناس على العامية بإشاعتها في وسائل الإعلام التي ازدادت بشكل مفاجئ وغريب نسبة برامجها الناطقة بالعامية حتى أصبحت الفصحى أقرب إلى التهميش، وطالت العملية حتى نشرات الأخبار في هذه المرحلة المتقدِّمة من المشروع... وهو ما لا يحدث في الدول التي تحترم نفسها وشعوبها.
قطاع النشر يستعد في هذا المجال إلى الخضوع إلى "إصلاحات"، حسب ما يتردد في بعض الأوساط، لا نتوقَّع أنها ستكون غير مُنسَجِمة مع التوجهات الإستراتيجية الثقافية سابقة الذِّكْر.
2- التضييق، كمرحلة أولى، على المرجعية القيمية للديانة الإسلامية بتنظيم حملات هي الأخرى غير مُعلَنة بل يجري تمريرها وكأنها عفوية عبْر وسائل الإعلام التقليدية وغير التقليدية ومحاولة المساس بمصداقيتها وقداستها، دون أن يعني ذلك أنه لا يوجد ما هو قابل للنقاش والاجتهاد في الدِّين، بِرُعُونة واستهزاء واستخفاف وسخرية أقل ما يُقال عنها إنها لا تحترم الشعب ومعتقداته وتأتي عادةً من دُعاة الحريات والتسامح واحترام الغير.
3 - "إصلاح البرامج التربوية" المزعوم الذي يبدو، حسب ما بلغنا عنه حتى الآن، لا يُضيف لا علوم جديدة ولا تكنولوجيا ولا فلسفة ولا قِيَم أو معارِف حديثة بِقدر ما يَعنى بتصفية البرامج التربوية من رموز دينية وسياسية بشكل تدريجي لا نعتقد أنها ستتوقف عند هذا الحدّ.
4 - تقييد النشاط الديني الإسلامي الثقافي، وغير الثقافي، وإطلاق اليد لنشاطات مناهِضة للمعتقدات الدينية الإسلامية وحماية هذه النشاطات ودعمها بشكل أو بآخر وفتح الإعلام لها بسخاء.
5- يجري ذلك بالتزامن مع ضجيج بعض الإعلام عن مستقبل المدارس القرآنية وما يدور في فلكها يوحي بأن موعد تقييد نشاطها وحتى لجْمها قد اقترب.
6- تمييع البرامج التي تُحسَب على التوعية الدينية الإسلامية حتى أصبحت أقرب إلى السكاتْشات والمسرحيات الهزلية منها إلى البرامج الدينية. ونحن بعيدون اليوم أشد البُعد، مثلاً، عن مستوى دروس الكفاءات الدينية من عيار المرحوم الشيخ الغزالي وأحمد حمَّاني ومكركب والمغربي وآخرين...
7 - بَثُّ نقاشات أحادية النظرة وإبعاد الخطاب النقيض والمعارِض في وسائل الإعلام، وتنظيم أخرى في شكل ملتقيات ومحاضرات وندوات، حول قضايا كبرى بل مصيرية لها تداعيات ضخمة على مستقبل البلاد. وعندما يَحدُث أن تَحْضُرُ وجْهَتَا نَظر متناقضتان، أيْ القضية ونقيضها، يتم تَمْييعُ النقاش عادةً عبْر انتقاء المدعُوِّين من الذين تنقصهم الكفاءة والأدوات للنقاش فيُصبِح النقاش أقرب إلى السِّيرْكْ والتهريج. مثلما يحدث على سبيل المثال في المناقشات حول "اللغة الجزائرية" وغيرها من القضايا...
8 - فعالية الإذاعات الجهوية في إداء وظائفها تبدو، أو على الأقل بَدَتْ لي خلال بضع سنوات ماضية، أقوى من نظيراتها الوطنية التي أحيانا بمجرد الابتعاد عن مدينة الجزائر بـ: 10كلم أو 20 كلم يَصعب التقاط موجاتها...رغم أنها إذاعات وطنية وليست محلّية...
ولا أدري إن ما زالت هذه الإذاعات الوطنية تعاني من نفس الإشكالية أم أنه قد تمَّ تدارُكها... وهذا ما يؤدي في المدى الطويل إلى تعزيز الانسجام الجهوي أو الانتماء الإقليمي، في إطار التقوقع المحلي والانطواء، على حساب نظيره الوطني الذي يُفترَض أنه هو الذي يُعزِّز اللُّحمَة الوطنية ويُقرِّب بين الجزائريين...
وتوجد نقاط أخرى، سياسية وغير سياسية، تصب جميعاه في نفس الاتجاه. من أبرزها الدعوة إلى الفيدرالية وحتى إلى الانفصال وهي ليست جديدة بل طالب بها رسميًا بعض رجال النخبة السياسية في منتصف عشرية التسعينيات على غرار علي هارون، وزير حقوق الإنسان الأسبق وأحد رجال الثورة الجزائرية وأحد الخمسة الذين قادوا البلاد بعد انقلاب 1992م، والمرحوم العقيد في جيش التحرير صالح بُوبْنِيدَرْ المدعو "صوت العرب" في صُحف وفي قنوات إذاعية جزائرية في عزّ الحرب الدَّموية. وتلتقي هذه النقاط في خيط واحد وهو ما أعْتَبِرُهُ من وجهة نظري إستراتيجيةً ذات مدى طويل، هي اليوم في بداياتها، واضحة لإعادة شمال إفريقيا إلى حضن اللاتينية وفصْله عن بقية المجموعة الحضارية العربية الإسلامية كمرحلة من مراحل التَّفكيك الجاري إزاءه ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا، وعندما تنضج الظروف يتم ذلك عسكريًا. وفي العراق وسوريا والسودان وليبيا واليمن، وما هو قادم أعظم وسيطال مَن يعتقدون أنهم في مأمن ولم يفهموا أو لا يريدون أن يفهموا ما حدث للثور الأسود، العبرة لِمَن يعتبِر...