إن الله عز وجل ،بحكمته البالغة ، وعلمه الذي وسع كل شيء ، خلق العباد لعبادة رب العباد ( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ) فمن رحمة الله تعالى بخلقه أن هداهم سبل النجاة ، وميزهم بالحكمة والعقل لاختيار الطريق الأمثل ، الذي يؤدي إلى جنة الخلد وملك لا يبلى ، فالكل مفطور على عبادة ربه سبحانه وتعالى إلا من زاغ واتبع غير سبيل المؤمنين فذاك يوليه الله ما تولّى ويصليه جهنم وساءت مصيراً .
والإنسان منذ أن كان تراباا ثم نطفةً ثم علقةً ثم مضغةً ثم تخلق هذه المضغة فتكون جنيناً ثم يتبين خلق هذا الجنين ثم يخرج طفلاً ، في ذلك كله وبعده فهو مفطور على عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وبعد أن يُتم الحولين ، ثم ينشأ بين أهله وأقرانه وأقاربه فيكون شاباً يافعاً ، ثم يكون رجلاً ، ثم يكون كهلاً ، ثم يرد إلى ربه تعالى ، فيأتيه ملك الموت ، ذلك الزائر الذي لا يتوارى منه أحد ، ولا يهرب منه مطلوب.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا " ففي الموت عظة وتذكير، وتنبيه وتحذير، والموت هو الخطب الأفظع والأمر الأشنع والكأس التي طعمها أكره وأبشع، وإنه الحادث الهادم للذات والقاطع للراحات والجالب للكريهات فإنه أمر يقطع أوصالك ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك، ولكننا نسيناه أو تناسيناه، وكرهنا ذكره ولُقياه، مع يقيننا أنه لا محالة واقع وحاصل، ولا مفر منه ولا حائل.
وكان من هدي النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدي، مخالفًا لهدي سائر الأمم مشتملاً على الإحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه، وعلى إقامة عبودية الحي لله وحده فيما يعامل به الميت، وكان من هديه في الجنائز إقامة العبودية للرب تبارك وتعالى على أكمل الأحوال .
والإحسان إلى الميت وتجهيزه إلى الله على أحسن أحواله وأفضلها، ووقوفه صلى الله عليه وسلم ووقوف أصحابه صفوفًا يحمدون الله ويستغفرون للميت، ويسألون له المغفرة والرحمة والتجاوز عنه، ثم المشي بين يديه إلى أن يودعوه في حفرته ثم يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره سائلين له التثبيت أحوج ما كان إليه، ثم يتعاهده بالزيارة له في قبره، والسلام عليه والدعاء له كما يتعاهد الحي صاحبه في دار الدنيا .
وأيضا يستحب تلقين المحتضر ، لا إله إلا الله ، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" رواه مسلم ، وذلك لتكون هذه الكلمة الطيبة آخر كلامه، ويختم له بها فقد قال النبى الكريم صلى الله عليه وسلم "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة"، ولأن الشيطان يعرض للإنسان في حالة احتضاره ليفسد عقيدته، فإذا لُقّن هذه الكلمة العظيمة، ونطق بها فإن ذلك يطرد عنه الشيطان، ويذكّره بعقيدة التوحيد.
فإذا قضى وأسلم الروح فليغمضوا عينيه، وليدعوا له بالمغفرة والرحمة ورفع الدرجات، وأن يفسح الله له في قبره، وأن ينوره عليه، وما شاء الله من الدعاء، ثم يغطى بثوب أو غطاء، ثم إذا مات العبد فإنه يسرع في تجهيزه ، من تغسيله وتكفينه، والصلاة عليه ونقله إلى قبره .
لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي لجيفة مسلم أن تُحبس بين ظهراني أهله " رواه أبو داود ، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم: الإسراع بتجهيز الميت إلى الله، وتطهيره وتنظيفه وتطييبه وتكفينه في الثياب البيض.
وكان النبى الكريم صلى الله عليه وسلم ، يأمر بغسل الميت ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر بحسب ما يراه الغاسل، ويأمر بالكافور في الغسلة الأخيرة، وكان يأمر من ولي الميت أن يحسن كفنه، ويكفنه بالبياض، وينهى عن المغالاة في الكفن.
والرجل يتولى تغسيله الرجال، والمرأة يتولى تغسيلها النساء، ويجوز للرجل أن يغسّل زوجته، وللمرأة أن تغسّل زوجها ، ومن تعذر غسله لعدم الماء أو لكون جسمه محترقًا أو متقطعًا لا يتحمل الماء، فإنه يُيَمّم بالتراب، وإن تعذر غسل بعضه غسل ما أمكن غسله منه، ويمم عن الباقي ، فإذا غسل الميت وكفن، فإنه يصلى عليه، والصلاة عليه جماعة أفضل لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه.
ويجوز كشف وجه الميت، وتقبيله، والبكاء عليه؛ غير أن الحزن والبكاء يجب ألا يتجاوزا إلى النياحة، ولطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية ، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على إبنه إبراهيم وهو يحتضر، فأخذ رسول الله ولده الصغيرَ إبراهيمَ وأدركته عاطفة الأبوة .
وحمل الصبيّ وقبَّله وشمّه، ثم دخل عليه أخرى فإذا هو في آخر لحظاته، وإذا بالصبي ينازع الموت، فأخذه أبوه صلى الله عليه وسلم ، ونظر إليه، واشتدت رحمته له وهو الرحيم، فبكى وجعلت عيناه تذرفان.
فقال بعض القوم: تبكي يا رسول الله؟ فقال: "إنها رحمة" ثم أتبع الدمعة بدمعة أخرى ثم قال: "إن العين تدمع، وإن القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وكذلك السقط إذا كان له أربعة أشهر غُسِّل وصُلي عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" رواه أحمد ، ومن فاتته الصلاة على الميت قبل دفنه صُلِّي على قبره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر .
وذلك أن امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها فقالوا: ماتت، فقال: أفلا كنتم آذنتموني؟ قال: فكأنهم صغّروا أمرها، فقال: " دلوني على قبرها " فدلوه، فصلى عليها.
ثم بعد الصلاة على الميت يُبَادر بحمله إلى قبره، ويستحب للمسلم حضور الصلاة على أخيه المسلم، وتشييع جنازته إلى قبره، بسكينة وأدب وعدم رفع صوت لا بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان" قيل: وما القيراطان؟ قال: " مثل الجبلين العظيمين". متفق عليه.
ويسن توسيع القبر وتعميقه، ويوضع الميت فيه موجهًا إلى القبلة على جنبه الأيمن، ويسد اللحد عليه سدًّا محكمًا، ثم يُهال عليه التراب ، ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر، ويكون مسنمًا، أي: محدبًا، وذلك ليرى فيعرف أنه قبر فلا يوطأ، ولا بأس أن يجعل علامة عليه، بأن يوضع عليه حجر ونحوه ليعرفه من يريد زيارته للسلام عليه والدعاء له.
ولما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته فدفن، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسر عن ذراعية ، ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي .
ويقف الولي على القبر يدعو له بالتثبيت، ويستغفر له، ويأمر الحاضرين بذلك لحديث عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: ” كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل “.رواه أبو داود
ولا تجوز الكتابة على القبور، لا كتابة اسم الميت ولا غيرها، ولا يجوز تجصيصه ولا البناء عليه، ولا تجوز إضاءة المقابر بالأنوار الكهربائية ولا غيرها، لحديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصّص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنَى عليه. رواه مسلم.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واشتد نهيه في ذلك حتى لعن فاعله، ونهى عن الصلاة إلى القبور، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيداً، ولعن زوارات القبور، وكان هديه أن لا تُهان القبور وتوطأ، وألا يجلس عليها ويتكأ عليها، ولا تعظم بحيث تُتخذ مساجد فيصلى عندها وإليها، أو تتخذ أعيادًا وأوثانًا.
وإن الذي ينفع الميت بعد موته هو ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم من المبادرة بقضاء ديونه، فإن المسلم مرتهن بدَيْنِه حتى يقضى عنه وتنفيذ وصاياه الشرعية، والدعاء له والتصدق عنه والحج والعمرة عنه، قال صلى الله عليه وسلم: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له ". رواه مسلم.
وتستحب تعزية المصاب بالميت، وحثه على الصبر والاحتساب، ولفظ التعزية أن يقول: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، وغفر لميتك ، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن لا عند قبره ولا غيره، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة، وكان من هديه السكون والرضا بقضاء الله، والحمد لله والاسترجاع ، ويبرأ ممن خرق لأجل المصيبة ثيابه، أو رفع صوته بالندب والنياحة، أو حلق لها شعره.