زارني بصحبة ( عمر ) مرات متتالية ، حاول أن يتقرب مني ، دفع عني في المقهى ، امتدح كتاباتي ، تغزل بشكلي ، قدم لي العديد من لفافاته ، ومع ذلك لم أزره ، رغم دعواته الحارة والمستمرة . عانيت كثيرا حتى حفظت أسمه ، أطلعت ( عمر ) على حقيقة موقفي منه ، فعارضني وأكد بأن ( صهيب ) إنسان طيب ، فهو رفيق طفولته ، وصفته بثقل الدم ، خالفني ( عمر ) بشدة ، قلت في حزم : ـ إنه لم يرق لي . اتهمني ( عمر ) بالتكبر ، تساءلت عن سبب نفوري منه ، لم أعثر على جواب .. قال ( عمر ) : ـ هل تعلم .. هناك تشابه بينكما ؟!.. وضحك . طار صوابي ، قلت منزعجا : ـ لو تأكدت من أنه يشبهني ، لانتحرت . ضحك ، وعاد ليتهمني بالغرور . لست مغرورا ، بدليل أني أصادق من هم أدنى مستوى من ـ صهيب - . اتهمت نفسي بالغيرة منه ، فهو يقاسمني صداقة ( عمر ) ،لكن ( عمر ) يملك أصدقاء عديدين غيره ، فلماذا أكره ( صهيب ) وحده ؟!. كنت أهتاج من لطفه معي ، من إبتسامته كلما التقت نظراتنا ، وأكثر ما كان يغيظني اعتناقه لمبدئي ، وإعجابه بكل ما يعجبني ، وصلت إلى رأي قاطع : ـ ( صهيب ) ، مجامل ومتملق . لم يوافق ( عمر ) بالطبع . قررت أن أتحاشاه ، لذلك طلبت من ( عمر ) أن لا يزورني برفقته ، وأن لا يصطحبه إلى المقهى . اشتعلت حنقا حين اكتشفت أن لقاءاتي ( بعمر ) قد تباعدت ، فأدركت أنه يفضله عليّ ، وأنا أحب ( عمر ) ولا أستغني عنه ، عزمت على معاتبته ، لكنه عند لقائنا ، رفع إصبعه بوجهي : ـ أنت السبب يا ( محمود ) . هتفت مستغربا : ـ أنا ...؟؟؟!!! ـ ألم تطلب إبعاد ( صهيب ) عنك ؟ . ـ لكني لم أقل إبتعد أنت معه . رد بصوت حاسم : ـ ( صهيب ) أيضا صديقي . تضاعف كرهي له ، فكرت أن أضع ( عمر ) بين خيارين ، لكني تراجعت ، خشيت من ردة فعله ، فماذا لو أنه اختار ( صهيب ) . قلت بتودد : ـ عندما تعارفنا .. لم يكن ( صهيب ) بيننا . قاطعني : ـ أنت تعرف أنه كان مسافرا . تجاهلت حنيني ( لعمر ) ، حاولت أن أنصرف إلى غيره من الأصدقاء . إسبوع مضى وأنا أرقب طلّته على المقهى ، أنتظر قدومه إلى بيتي ، وعندما تمددت فوق سريري ، وجدتني أفكر بزيارته . صدمت بوجود ( صهيب ) ، الذي رحب بي بفتور ، تأكدت أن ( عمر ) قد أطلعه على حقيقة موقفي منه ، فأرجأت عتبي . لم أكن مرتاحا لتغير موقف ( صهيب ) مني ، فسألته عن أحواله وأخباره ، ولأول مرة طلبت منه أن يلاعبني الشطرنج . أحسست بسعادة غامرة ، حين وجدته يعود إلى عفويته معي ، ويعاملني كما كان في السابق . تعمدت إنهاء السهرة ، لحظة أراد ( صهيب ) وداعنا ، خرجت برفقته ، سرنا طويلا ، تحدثنا ، وعند بيته دعاني للدخول ، قلت : ـ رغم تأخر الوقت ، سأدخل وأشرب القهوة عندك . احتفى بي لدرجة أني خجلت من نفسي ، أحسست نحوه ببعض المودة والإحترام ، قدم لي ابنته البكر ، قبلتها .. وداعبتها قليلا ، ثم عرفني على زوجته ، رحبت بي ، وطلبت أن تتعرف إلى زوجتي ، لأن زوجة ( عمر ) حدثتها عنها كثيرا . وقبل أن أنصرف ، اتفقنا على موعد لزيارة عائلية . نشبت صداقة قوية ، بين زوجتي وزوجته ، نجتمع نحن الثلاثة ، في غرفة ، بينما تجتمع زوجاتنا ، في غرفة أخرى . خلسة ، أخذ ( عمر ) يعلق ويطلق نكاته ، يذكرني بمواقفي السابقة ، من ( صهيب ) ، قلت ضاحكا : ـ سبحان مغير الأحوال . بعد فترة برزت أمامي مشكلة ، زوجتي الحامل ، تحتاج إلى عملية قيصرية ، أسعفتها ، واتّصلت ( بصهيب ) ، سعدت كثيرا إذ وجدته يهرع لنجدتي ، قائلا : ـ اطلب من النقود ما تشاء . كنت مسرورا لتجاوز الأزمة ، بمعونة ( صهيب ) ، فقضيت سحابة يومي في بيتي ، ومخيلتي ترسم لي سعادة وردية ، بقدوم طفلنا الرضيع ، غفوت على عطرها ، بعد يوم شاق . كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة والنصف ، عندما تنبهت إلى صراخ زوجتي : ـ ( محمود ) .. انهض ، هناك من يطرق الباب . قمت بتثاقل ، كان ( صهيب ) واقفا ، يحدق إليّ ، اعتقدت أنه جاء بغية الإطمئنان ، على وضع ربة بيتي ، شعرت نحوه بالإمتنان .. واعتراني ندم شديد على مواقفي السابقة منه ، افترت شفتايّ عن إبتسامة ، لم تكد لتستقر ، حتى استلّتها عبارته الصارخة : ـ أهكذا زوجتك يا ( محمود ) ؟!.. تدخل بيتنا لتسيء إليه .! شدهني كلامه هذا ، جمدني ، طير النوم من عينيّ : ـ خير إن شاء الله !!!.. مابها زوجتي ؟!؟! . رد بانزعاج : ـ تصف زوجتي بالبرودة ، وثقل الدم !!!. اغتصبت إبتسامة باهتة ، عساني أعيده إلى توازنه : ـ من قال لكم .. هذا الكلام الفارغ ؟!؟!. أجاب .. وكله يرتعش : ـ ( صباح ) .. زوجة ( عمر ) . همست معاتبا : ـ أجئتني الآن .. من أجل هذا القول التافه ؟!. صاح كمن فقد رشده : ـ أنا أريد نقودي ... لأنكم تتنكرون للمعروف . دارت بي الأرض ، دلق إبريق من الماء المثلج على ظهري ، قلت وحنجرتي تكاد تنفجر : ـ حاضر يا ( صهيب ) .. غدا أدبر لك المبلغ . صرخ وكأن عقربا لدغته : ـ أنا لست مستعدا للإنتظار ، طالما زوجتك تكلمت عن ( غادة ) . فار الدم في عروقي ، تذكرت نفوري منه ، الآن فقط عرفت السبب ، احتقرت نفسي ، لأني رضخت ( لعمر ) ، ووطدت علاقتي به ، حقدت على ظروفي التي جعلتني احتاجه : ـ هل أقرضتني النقود ، حتى تذلني ؟!. زعق بوجهي ، وكأنه يريد أن يوقظ سكان الحارة : ـ أنا منذ البداية ، قلت ( لعمر ) ، إنك لا تصلح لي صديقا . قهقهت أعماقي المتخمة بالقرف ، شعرت بازدراء نحوه ، هتفت : ـ الحمد لله إنها جاءت منك .. غدا أبعث لك نقودك . دس يده في جيب سترته ، أخرج ورقة : ـ اذاَ ... وقع لي على هذا الإيصال . امتدت يدي الراعشة ... وبدل أن تطال الورقة ، طالت خده .&