الدنيا ليست دار بقاء ولكنها دار امتحان واختبار يعمل فيها العبد للاخره ويزرع فيها حتى يحصد ولا شيء أفسد للقلب من التعلق بالدنيا والركون إليها؛ فإن متاعها قليل، والبقاء فيها مستحيل، ومنادي الموت ينادي كل يوم: يا عباد الله الرحيل.. الرحيل!!. وإن التطلع إلى الدنيا يقعد بالمؤمن عن التطلع إلى الآخرة والعمل لها، وهيهات لقلب فاسد مريض أن يقوى على العبادة الحقة، والدعوة التي تحتاج إلى صبر ومصابرة؛ يقول من خلق هذه الدنيا وفطرها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) وإذا تُركت النفس وشأنها زاد تعلقها بالدنيا، وزاد التصاقها بها؛ حتى تصبح هي كلّ غايتها، ومنتهى أملها، ومبلّغ علمها، قال الله جل وعلا: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُو أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُو أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) ولكي نتقي شر هذه الدنيا المتقلبة، دعونا أيها الإخوة في الله نستمع إلى من خبرها وعرفها معرفة حقه من أهل التقى والصلاح؛ لنـزداد معرفة بها: يقول الفضيل بن عياض: “الدخول في الدنيا هيّن، ولكن الخروج منها هو الشديد“، إذن ربما تستدرج الدنيا أحدنا حتى يقع في أحضانها، فيكون أحد المدمنين؛ الذي يعجزون عن التخلص من شباكها. وقال آخر: “عجبًا لمن عرف أن الموت حق.. كيف يفرح؟! وعجبًا لمن عرف النار وأنها حق.. كيف يضحك؟! وعجبًا لمن رأى تقلب الدنيا بأهلها.. كيف يطمئن إليها؟! وعجبًا لمن يعلم أن القدر حق.. كيف ينصب“؟!. وقال مالك بن دينار: “اصطلحنا على حب الدنيا، فلا يأمر بعضنا بعضًا، ولا ينهى بعضنا بعضًا، ولا يدعنا الله على هذا، فليت شعري أيَّ عذاب الله ينزل علينا؟!”. وقيل لبشر: “مات فلان، فقال: جمع الدنيا وذهب إلى الآخرة، وضيّع نفسه“. أرى طالب الدنيا وإن طال عمره****ونـال من الدنيا سرورًا وأنعمًا كـبـانٍ بنـى بنيانـه فأقـامـه **** فلما استـوى ما قد بناه تهدما وقال آخر – يعظ أخًا له في الله وخوفه بالله -: “يا أخي إن الدنيا دَحَضٌ مَزَلَّة، ودار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وعامرها إلى القبور زائر، شَمْلها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار، فافزع إلى الله، وارض برزق الله، لا تتسلف من دار فنائك إلى دار بقائك، فإن عيشك في الدنيا فيءٌ زائل، وجدار مائل، أكثر من عملك وأقلل من أملك“. وقال يحيى بن معاذ: العقلاء ثلاثة: “من ترك الدنيا قبل تَتْرُكَهُ، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه“. وقال بُنْدار: “إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون بالزهد، فاعلم أنهم في سخرية إبليس“. وذكر أناسٌ الدنيا، وأقبلوا على ذمها عند رابعة العدوية، فقالت: “اسكتوا عن ذكرها فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها، إن من أحب شيئًا أكثر من ذكره“. قال عبد الله بن مسعود: “اضطجع النبي -صلى الله عليه وسلم- على حصير فأثَّر في جلده فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، لو كنت آذنتنا ففرشنا لك عليه شيئًا يقيك منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ما أنا والدنيا! إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها” (رواه ابن ماجه). وبعدُ فما العلاج لمن يرى نفسه أنه منغمس في الدنيا بعيد عن الآخرة؟!. العلاج هو تخليص القلب من أسرها، ومن أسباب زيادة شأنها في نفسه، وتصحيح النية في جميع الأمور المتعلقة بها، كالوظيفة، والتجارة، والصناعة، ونحوها. وأن يجعل زوال الدنيا نصب عينيه، ويتيقن لقاء الآخرة وبقاءها، وما فيها من النعيم المقيم، ويتدبر قوله تعالى: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُو مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) وقوله تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) وأن يسخّرها في طاعة الله تعالى؛ كما فعل أغنياء الصحابة رضي اللهم عنهم؛ نصرةً لدين الله عز وجل، وإطعامًا وبذلاً في سبيل الله، وإعمارًا لبيوت الله، وإسهامًا في كل وجوه الخير... فاللهم ارزقنا الخير وحب الخير يا رب العالمين .