مما لا يتناطح فيه عنزان ، ولا يريب فيه اثنان ، أن المسجد من أكثر الأماكن نجاحًا في تربية النُّفوس القاسيّة ، وتليِينًا للقلوب الرائِنَة ، وتأليفًا للأفراد المتشتِتَة ، وترويضًا لقاصِديه ، الـمتعلِّقين به على امتثال الأوامر واجتناب النَّواهي ، ومداومةِ الذكرِ والعبادةِ ، وعلى ترك الشَّهَوات والشُّبُهات .
ذلك أن المسجد إن " أُسّس على تقوًى من الله ورضوانٍ " واصطُفي له إمامٌ من ذوي الأكفيَاء الذين أعطاهم الله من العلم والمعرفة ، ورزقهم من الصلاح والإيمان ما يصلح به أحوال الرعيّة ، وتنشَعِب به قلوب المصلين ، ووُضِع فيه برنامج صالح ، ونظام دقيق ، يحوي دروسًا قيِّمةً وخطبًا هادفةً ، فلا شك أن نِتاجَه سيكون فيهم أمَلٌ كبير ، وخيْر كثيرٌ ، فيصبحون أحْرِياء وقُمَناء بحمل الرسالة إلى ذوِيهم ، بعدما زكَت نفُوسُهم ، وصفَت سرائرُهم ، وطهُروا من الأرجَاس والأدْران الظاهرة والباطنة.
لكن ، مِما لمْ يعُد خافيًا على أحدٍ في الآونة الأخيرة ، أنّ المسجد انْزَاح دورُه عن المجتمع ، وتضَعْضع وقعُه وتأثيره عليه ، ومال إلى ما لا يحمد عقباه ، وأضحت الخطَب فيه محرَّفةً ومُزالةً عن جِهتِها ، فالتَّدنِّي الذي وصل إليه بعض أفراد مساجدنا وأئمتها من تحويل المسجد إلى حكمٍ فرديّ وملكٍ شخصِيّ ينصِب عليه سلطانه ، ويسيِّر فيه أموره الشخصية ، ومراداتِه الخاصّة ، بات مكشوفا ، الأمر الذي استحَال به المسجد إلى جدارٍ هامدٍ ، وتمثالٍ جامدٍ ، فاقد الحركة ، منزوعِ الرسالة ، مسلوب الخشوع وحلاوة الإيمان .
وكنا من وقت قريب نشْكُو ونبْكي على أخْطاءٍ كثيرة تُرتكَب في مساجدنا ، ويقع عليها بعض أئمتنا ، وفوقَ منابِرها من خطبٍ لا تُترجَم ، أو التي لا تَنْسجِم أبدًا مع مستجدّات العصر ومَواقع الأحداث ، حيثُ لا تحمِل كلمةً تعود على المستمعين والمستَفيدين بنفعٍ يُسِيغُ لهم غُلَّة ، ويسدُّ لهم رمقًا ، أو بفائدةٍ تحُلّ لهم مشكلة ، و تخفِّف عنهم ألـمًا ووَيلًا ، ومِن نِزاعاتٍ تحدث من بعض أفرادها جلبَتْها الأثْرةُ و حبُّ النفس ، إلى جانب أخطاء ولُحُونٍ بشعةٍ تأتينا من بعض الأئمة ، لغويةً كانت أم سلوكيَّةً ، نتيجة سوء الاختيار ، أو الجَنَف عن أولي العلم والأبرار ، فاتسعت الأخطاء اتساعا عظيما ، وتشعّبت تشعّبًا مُفزعًا ، حتى لكأنها والـمدقِّق فيها يمثلان قول الشاعر :
تكاثَرتِ الظباءُ على خراشٍ *** فما يدري خراشٌ ما يصِيد
نعم ، كنا نتأسف لهذه الحالة الـمُزرية - وما زلنا - حتى داهمَنا سيلٌ أدهى وأمرّ ، تجـــــرُّ وراءه نُذر الفتنة الـمُطِلة برأسها ، حيث أشبهت المنابر منصةً تعرَض عليها الأزياء ، ومثوًى للدعاية والترويج لحزب سياسيٍّ معيَّن ، ومأوًى لتقريظ رئيس جمهورية حاضِرٍ ، مقابلَ تعييبِ حزبٍ معارضٍ ، أو تشنيعٍ على مخالفٍ سياسةَ الحاكِم رأيًا ورؤيةً ، أما الخطب عليها لم تعُد تذرف العيون أو توجِل القلوب ، يتلوها إمامٌ منحازٌ لا تَظْفر منه بشيءٍ إلا شيئاً لا يعبأ به .
وزاد الطين بلَّةً والخرْق اتساعًا – وهو من المضحكات المبكيات – أن أُلحِق بطِلاء المسجد ودِهانه لونٌ يمثِّل علَم حزب حاكم ، ويوائِم شعارَه ورمزَه ، فأدى كل ذلك إلى تجريد المسجد من رسالته ، فلم يعد لله فيه نصيب ، حيث لا إنابة ولا خشوع ، وتحوّل ما كان له من لامَات اختصاٍص إلى لامَات للملك والتمليك ، فبدَل القول بأنَّ الحصِير للمسجد قيل : إنّه لزيد أو لعمرو ، وقُل مثلَ ذلك في الحدِيد ، وربما الطُوب التي بني بها المسجد ، وتتساءل عن السبب فلا تجد جوابا !
من يدري ، فلعله لو أُوقف الإمامُ عند حدِّه ، أو أقِيل من منصبه ، سيسحب معه النوافذَ والأبواب ، فيسهل للفئران والجرذان ارْتِياد المسجد ليلا ونهارا ، وربما لو فضَّل أصحاب المسجد وأهل الحَــــيِّ لونًا مخالفًا ، ودهانًا خاليًا من الدِّعاية والتطبيل ، لظلَّ المسجد زمنا ليس بالقصير ، بشِيعَ الوجه ، بيــِّن الدمَامة والقتَامة ، فاقدًا كريما يؤْثِر على نفسه، وينفق فيه أمواله لله وفي سبيله .
ومعروف أن مسجدا هذه حاله ، حيث تَطْغَى عليه الدعاية ، ويؤجِّج بين المصلين نار الخصومة والشحناء ، وتُبْذَر فيه الفتنة ، ويروَّج التعصبُ على منبره ، باتَ مصيبةً تتضاءل دونه كل المصائب والويلات ، وبالتالي فلا عتْبَ على من انسحب من الصّفِّ ، وطوى سجَّادته ومصلَّاه ، قاصدًا مسجدا آخر " فيه رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة ، يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار "
على أنه ينبغي على أولى النهى والألباب ، استدراك هذه المصائب ، قبل أن يعظُم شرُّها ، ويستفحِل أمرها ، لأنها بمثابة شريعةٍ تُنتَهك ودينٍ يُغْتال ، فلا بد أن يقول فيها كل غيور على دينه كلمتَه ، لا يتَتَعْتع ولا يَتَلجْلج .
وأرى أن الحَلَّ الذي به يستعيد المسجد والسَّاجد أحكامهما ودورَهما ، ويذوبَ عنهما نارَ الفتنة وسمومَها ، وتختفي آثارَ القبلية والعصبيَّة عن طريقهما ، ماثلٌ ومتأصلٌ في تطبيق حقيقة الآية الكريمة " وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا "