سنتناول هنا حكاية الشعب (الروهنجي) المسلم, الذي يعيش مأساة حقيقية متجددة منذ اليوم الذي صار مصيرهم بيد الحكومة البورمية الجائرة, حين أقدمت السلالات البوذية المتطرفة عام 1784 على ضم إقليمهم (أركان) بالقوة, ثم استولى الجيش على مقاليد الدولة بانقلاب عسكري عام 1962, فأطاح بالملكية البوذية, وأسس لنظام متشدد في قبضة جنرالات الجيش, فحرموا الشعب الروهنجي من اكتساب الجنسية الوطنية, وحرموهم من التعليم والتوظيف والسفر, وفرضوا عليهم البطالة والعزلة في الغابات المظلمة الغارقة في التخلف, وتركوهم يمارسون الطرق المعيشية البدائية, من دون أن يزودوهم بوثائق رسمية تثبت انتمائهم إلى ماينمار, ولم يسمحوا لهم بالمغادرة والرحيل, وتصرفوا معهم وكأنهم فئة مسحوقة من الفئات المنبوذة. .
بات من المؤكد إن المسلمين (في أصقاع الأرض) سيصابون بدهشة عظيمة عندما يشاهدون بأم أعينهم ما يحدث لهذه الفئة القليلة المحاصرة في بقعة منسية من كوكب الأرض, حيث يُقتلون في صمت, ويُعذبون في صمت, يفرون في الظلام على غير هدى تحت حمم فوهات البنادق, فيتساقطون في بركة كبيرة من الدم المراق بين اللهب والدخان بلا ناصر ولا معين ولا مغيث.
تلال فوق فوهات الجحيم
على الحدود الجنوبية الشرقية لبنغلادش, تعيش قبائل مبعثرة من الأقليات المسلمة, منفية خلف الحدود الإقليمية لدولة ماينمار (بورما سابقا), يشكلون في مجموعهم ما يسمى بطائفة الروهنجيا, التي تعد من أفقر الطوائف الهندية الآسيوية, وأكثرها حرمانا وتعاسة, يتعرضون يوميا للإبادة العنصرية, والترهيب والترويع على يد السلطات البورمية العنصرية, ما اضطر بعضهم للفرار إلى تلال (كوتو بالونغ) القريبة من الحدود البنغالية, فشيدوا لهم مجموعة من المخيمات البائسة وأكواخ الصفيح, في منطقة موبوءة بالأمراض والأوبئة, بانتظار المساعدات الإنسانية التي تقدمها لهم منظمة (أطباء بلا حدود), وهربا من بطش البورميين البوذيين. .
يشكل الأطفال ثلث سكان المخيم, معظمهم دون سن العاشرة, وقد وصل البؤس والفاقة وضعف الحال بأهاليهم إلى الاضطرار لبيعهم بثمن بخس, حتى بات الأطفال من السلع الرخيصة المرشحة للرق والعبودية والمصير المجهول بين مخالب العصابات الإجرامية, لتفعل بهم الأفاعيل من دون رادع ولا وازع, أو قد يسقطون في أوكار المتاجرة بالجنس والشذوذ والانحراف, في حين دأبت سفن التهريب على ابتزازهم وتهريب الراغبين بالهجرة إلى ماليزيا بمبالغ تستنزف مدخراتهم كلها.
في الليل, وفي الظلام الدامس يعيش اللاجئون في قلق وخوف ورهبة من الغارات البورمية المسلحة, التي اعتادت على القيام بمداهمات مفاجأة لاختطاف من تجده في طريقها, ليعثروا عليه في اليوم التالي مقتولا رميا بالرصاص خارج حدود المنطقة.
مسلمون مكبلون تلسعهم سياط العنصريين
في الجهة المقابلة للتلال تتلاطم أمواج خليج البنغال بتقلباتها الغاضبة, لكنها وعلى الرغم من عنفها وقسوتها, كانت هي الملاذ المفتوح لاستقبال هجرات الأفواج البشرية الهاربة من الجحيم, بينما راحت زوارق خفر السواحل البورمية تفتش المسطحات المائية في خليج البنغال صباح مساء, بحثا عن الروهنجيين الفارين من بطشها وجبروتها. .
الحقد والكراهية والتمييز العنصري
لأنهم لا يعتنقون الديانة البوذية, ولأنهم قاوموا طغيان الحكم العسكري المستبد, ولأن بشرتهم داكنة تميل إلى السمرة, ولأنهم لا ينتمون إلى الجذور العرقية للقوميات المنغولية والباتانية السائدة, ولأنهم وقفوا في يوم ما ضد التوسع الياباني, ولأنهم يتحدثون باللهجات التشيتاغونية البنغالية المختلطة باللغة العربية, وجد الروهنجيون أنفسهم مطاردين محرومين منبوذين, تحاربهم السلطة الحاكمة وتضيق عليهم الخناق, ويبغضهم كهنة المعابد البوذية, فيحرضون أتباعهم ضدهم, حتى أضحى من الصعب عليهم الانتقال من قرية إلى أخرى من دون تصريح من الكهنة, أو من دون الحصول على إذن مسبق من أمن الدولة.
يعمل الروهنجيون في صيد الأسماك والرعي والفلاحة والمهن الاجتماعية الرخيصة, اما الوظائف الحكومية فأبوابها موصدة بوجوههم, ولا يحق لهم إطلاق الأسماء الإسلامية على أولادهم وبناتهم, فالأسماء البوذية هي الخيار الأوحد, وهي المسموح بها في التداول, ومنعتهم أيضا من إطلاق لحاهم, وارتداء الزي الإسلامي. .
يقطن الروهنجيون بصورة حصرية في إقليم (أركان), أو (أراكان), موزعون في حوالي (18) مدينة بدائية منعزلة, حيث لا ترتبط مدنهم مع بعضها البعض بطرق المواصلات, فالوديان والمضايق الجبلية هي المسالك المعتادة في الانتقال سيرا على الأقدام من مدينة إلى أخرى بين الغابات والأحراش والصخور الصلدة, وفي مواجهة الوحوش الضالة والأفاعي السامة. .
يتعرض مسلمو (أراكان) اليوم لمذابح ومجازر, لا مثيل لها في الحروب والغارات الحربية الاستباحية, على يد أزلام النظام العسكري البورمي المستبد, بالتعاون مع ميليشيات بوذية باغية يطلق عليها (باغ), كانت هي الذراع العنصري الطويل للقيام بعمليات القتل المتعمد, وتنفيذ حملات التنكيل في القرى المسلمة, وتهجيرهم من أكواخهم, ونهب ممتلكاتهم, وحرق مزارعهم.
لقد مارست العصابات البوذية جرائم القتل والسحل والاغتصاب والتصفيات الجسدية في صفوف المسلمين بغية طرد المواطن الروهنجي وإحلال البوذي محله, وتكررت هذه الحملات المسعور لحرق القرى بالقنابل الفسفورية في أجواء مشحونة بالخوف والذعر, تناثرت فيها الجثث على ضفاف نهر (ناف).
عشرة ملايين مسلم تحت البطش العنصري
بلغ عدد الروهنجيين عشرة ملايين مسلم من مجموع سكان ماينمار, الذين بلغ تعدادهم بحدود خمسين مليون نسمة, بمعنى إن المسلمين يشكلون نسبة 20% من السكان, يعيش نصفهم تقريبا في إقليم (أراكان), بينما ينتشر النصف الآخر في القرى البورمية النائية, اما في (أراكان) فتبلغ نسبة المسلمين حوالي 70% من نفوس الإقليم, يعيش معظمهم تحت خط الفقر في مواجهة التعسف العسكري والاضطهاد البوذي.
شنت الحكومة البورمية أولى حملات الإبادة الجماعية عام 1942, راح ضحيتها أكثر من (100000) مسلم ومسلمة, وسعت منذ ذلك الحين إلى تطبيق سياسة (البرمنة) في التعامل الشرس مع القبائل غير المنضوية تحت سلطة المعابد البوذية, وقطعت شوطا كبيرا في هذا الاتجاه, لكنها فشلت فشلا ذريعا مع القبائل المسلمة, فلم يرتد احد منهم, وتمسكوا بالله الواحد الأحد الفرد الصمد, فكان مصيرهم الموت ذبحا وحرقا في حملات عنصرية استهدفت نهب ثرواتهم, ومسخ هويتهم, وطمس شعائرهم, ونسف تراثهم, وتغيير معالمهم, وتغييب ذكرهم, ومصادرة حقوقهم.
اما آخر حملات الإبادة فكانت في بداية هذا العام, وعلى وجه التحديد في شباط (فبراير) عندما قامت المليشيات البوذية المسلحة بإحراق وتدمير قرى المسلمين, فقتلت السكان, وطاردت الفارين منهم في الحقول والبساتين, وخلفت ورائها خمسمائة قتيل, وأكثر من ألفي جريح, ثم تكرر الهجوم بعد شهرين, فشنت المليشيات المسلحة بالحقد الطائفي حملة على سكان مدينة (تونجو) بالتعاون والتنسيق مع عناصر التشكيلات العسكرية المتسلطة على رقاب الناس, حتى تكدست الجثث فوق بعضها البعض في صور مروعة بثتها الفضائيات غير الإسلامية في أكثر من محطة, في الوقت الذي كانت فيه بعض الفضائيات المحسوبة على الدين منشغلة بالتحريض الطائفي والتحشيد المذهبي, ومنشغلة ببث الفرقة, وإشاعة النعرات الطائفية, وفي الوقت الذي كان فيه بعض زعماء الأقطار الإسلامية يشيدون المخيمات السكنية لإيواء الصهاينة في ضواحي تل أبيب, ويعمرون حدائق الحيوانات في نيويورك, ويغدقون العطاء على فرق كرة القدم.
شيء من التأريخ
يقول المؤرخون: إن أصل كلمة (روهنجيا) هو: (روح النجا), وإنها جاءت من بحارة مسلمين ركبوا البحر, فجرفتهم الأمواج العاتية إلى هذه الأرض البعيدة, وتكسرت سفينتهم فوق صخور سواحلها, فطلبوا (الرحمة) و(النجاة) من سكان المنطقة, فكانت (الرحمة + والنجاة) هي الأصل في ولادة كلمة جديدة (رهمنجيا), أو (روهنجيا), لكننا لو عدنا إلى قراءة ما كتبه المؤرخ الروهنجاني (محمد بن خليل الرحمن الأركاني), لعثرنا على تفسيرات أخرى أكثر وضوحا ودقة.
يقول الشيخ الأركاني: إن تسمية إقليم (أراكان) تعود إلى الحملات الإسلامية الأولى بالدعوة للدين الحنيف وأركانه الخمسة, التي بُني عليها الإسلام, فاعتنق الملك (غولتغي) الإسلام على يد الأمير (حمزة), فسمي عاصمة مملكته (أركان).
قال الدكتور محمد عبده يماني: كل شبر من (أركان) يصرخ بأنها أرض مسلمة, وتظل كلمة (أركان) هي الكلمة العربية الإسلامية, (جمع ركن) شاهدا على حقيقة انتمائها الإسلامي, واعترف المؤرخ البوذي (مونغ ثان لوين) بان اسم إقليم (أركان) مشتق من العربية (ركن). .
اما (روهنجيا) فيبدو إنها مرتبطة بمدينة الكوفة العراقية, فالمسلمون هناك ينسبون (روهنجيا) إلى (روهنج), وهو تصحيف من (الرهمي), أو (الرهمة), أو (الرهيمة), و(الرهيمة) ضيعة قديمة قريبة من الكوفة, ذكرها المتنبي في إحدى قصائده, فقال:
فيا لك ليلا على أعكش
أحم البلاد خفي الصوى
وردن الرهيمة جوزه
وباقيه أكثر مما مضى
وليس من المستبعد تسميتهم سواحل (أركان) بالرهيمة على غرار تسمية تلك الضيعة القريبة من الكوفة, ووصف المؤرخون (أركان) وملوكها بعبارة: ((مملكة رهمي وعظيم أركان الشرق)), وهذا ما أورده ابن خرداذبه, واليعقوبي, والمسعودي, وابن الفقيه الهمداني, والإدريسي, و(الرهمي) نسبة إلى (الرهم), و(الرهم) بطن من بكر بن وائل من العدنانية, ورهم بن تاج بطن من عمرو بن قيس, ما يعني إن إنشاء مملكة (الرهمي) يرجع فضله إلى العرب كما هو واضح من تسميتها, والله أعلم.
تساؤلات مشروعة وفي محلها
لو كان إقليم (أراكان) من الأقاليم الغنية بالغاز والبترول لما كان هذا حالها, ولا نقصد إن أوضاعها ستتحسن بعائدات النفط والغاز, بل نقصد إنها ستكون قبلة للأقطار الصناعية المتجبرة, التي ستدس انفها في شؤونها الداخلية, وتتظاهر بنجدتها وإسعاف أوضاعها المأساوية, وستكون قبلة للأساطيل الحربية العملاقة, ولأصبح حالها مثل حالنا منذ اكتشاف نعمة (نقمة) النفط والغاز وحتى يومنا هذا, وهذا هو سر تصدرنا عناوين الأخبار في الرايحه والجايه, تارة بذريعة البحث عن أسلحة الدمار الشامل, وتارة بذريعة قمع الإرهاب وتجفيف منابعه, وتارة أخرى بذريعة تطبيق أحكام الفصل السابع والثامن والتاسع, في متوالية سياسية من إعداد وإخراج وتنفيذ القوى الشريرة وأذنابها في المنطقة
وهكذا ظلت (أراكان) تنوء وحدها بحملها الثقيل, وتأن من جراحها العميقة في زاوية منسية من خليج البنغال, تضحي بأبنائها ورجالها ونسائها على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي كله, من دون أن تتلقى الدعم والعون والإسناد من القوى التي هرعت مع جيوش الأوديسا, وهبت لنجدة (ليبيا), لا لشيء إلا لأنها من الدول الغنية بالغاز والبترول, اما (أراكان) فليس فيها لا غاز ولا بترول, فالشيمة والحمية عند بعض العرب مسألة نفطية يقررها فقهاء الدولار.
لا تختلف أحوال (أراكان) كثيرا عن أحوال شقيقتها (غزة), التي حاصرها بعض زعماء الأقطار الإسلامية, وطعنوها برماح الغدر, فمنعوا عنها الغذاء والدواء, وخذلوا (حماس) وهي في أوج حماسها.
ولا تختلف أحوالها عن أحوال إقليم (كوسوفو), عندما ارتكب السفاح سلوفودان ميلوسيفيتش أبشع المجازر الوحشية ضد المدنيين الألبان, فوقف بعض القادة العرب عام 1999 في صف سلوفودان السفاح, بينما وقف المجتمع الدولي مع القرى المسلمة المنكوبة, وأرغموه على الانسحاب, ولا يختلف أبناء (أراكان) عن أبناء (البدون) العرب, الذين حرمتهم بعض الأقطار الإسلامية من حقوقهم المدنية, على الرغم من إنهم ولدوا على هذه الأرض, وعاشوا هنا منذ عشرات العقود. .
لو كان إقليم (أراكان) ينتج الأفيون والماريجوانا والكوكايين بالكميات التي تنتجها أفغانستان, لكانت القوى الشريرة تذود بالدفاع عنها, تارة بذريعة القضاء على المد السوفيتي, وتارة بذريعة القضاء على المد الإسلامي, فالمصالح هي التي ترسم المسارات التي تتحرك نحوها الفيالق العسكرية, وهي التي تخلق العوامل المحفزة لضمير مجلس الأمن, وهي التي تجلب انتباه المنظمات (الإنسانية) وتثير فضولها.
حتى الفضائيات العربية نفسها امتنعت عن نقل أنباء المجازر الكارثية, ولم تنقل لنا تصريحات الرئيس البورمي الشرير (Thein Sein) وخطته الشيطانية لقتل وتشريد وتجويع الشعب الروهنجي المسلم, حين أباح لكلابه القيام بحملات التطهير العرقي بالحرق والتدمير والاغتصاب, فلا تتحدث عنه الفضائيات العربية ولو بالهمس, ولم تتطرق إلى الجحيم الذي يعيش فيه هذا الشعب المنكوب ولو لمرة واحدة في برامج ناشيونال جيوغرافي من باب المجاملة على أقل تقدير, باستثناء قناة (المجد) التي نقلت لنا بعض وقائع المجازر الدامية. .
جانب من ممارسات العنصرية من قبل الجيش البورمي من المفارقات المؤسفة إن مكاتب التشغيل في بعض الأقطار الخليجية أقبلت هذه الأيام على توفير فرص العمل للبورمين البوذيين, الذين يحملون جوازات صادرة من حكومة (ماينمار) العنصرية, وسمحت لهم بالعمل على سفنها ومراكبها, والانكى من ذلك كله, إن الأقطار العربية والإسلامية لا توجد فيها منظمة روهنجية واحدة, الأمر الذي اضطرهم لتأسيس منظماتهم في الأقطار الغربية, فتأسست منظمة (BRAD) في ألمانيا, وتأسست منظمة (BRAT) في تايلاند, ومنظمة (BRCA) في استراليا, ومنظمة (BROUK) في بريطانيا, ومنظمة (BRAJ) في اليابان, ومنظمة (RCN) في النرويج.
ألم أقل لكم إن الروهنجيين فقدوا حظوظهم كلها عند الفضائيات العربية الكبرى المنشغلة هذه الأيام بالتضليل الإعلامي, والتي لم تبد اهتماما بالروهنجيين بسبب بعدهم عنا, وبسبب بؤسهم وفقرهم وضعف حالهم, وبسبب معركتهم الإسلامية الصادقة حيث يقف الإيمان وحده في مواجهة الكفر كله, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. .
والله إنها مجازر عظيمة تدمي القلوب, فحسبنا الله ونعم الوكيل, هو وحده القادر على دحر الباطل ورد الظلم عن الشعب الأعزل في معركته غير المتكافئة مع الجيش البورمي المجنون.
اللهم ارفع الظلم عنهم, وأحفظ أعراضهم, وانصرهم على أعدائهم يا أرحم الراحمين, وإنا لله وإنا إليه راجعون. .