قبل عشر سنوات ولهذه السطور أعدُّ بهذا المقال ، لا تستغرب أيها القاريء ! فالسؤال الآتي طرح عام ٢٠٠٦ لتلاميذ مدرسة الفلاح الابتدائية :
اذا كان هناك أسد يموت إن لم يأكل الغزال ، والغزال يموت ان لم يهرب من الأسد ، ودعى الأسد الله إن يمكنه منه كي يعيش ودعى الغزال ان ينجيه الله من الاسد ، فلمن يستجيب الله ؟
طرحتُ السؤال على تلاميذي قبل عشر سنوات والسؤال مقصود به لكتابة الانشاء ، وانتظرت درسا كاملا كي يكتبوا وبعد سماع الجرس لم يكتبوا التلاميذ اي شيء ! اي انتهى الوقت ولم يستطع اي تلميذ ان يعبر عن المادة وواعدتهم بالحصة الثانية وغيرت بالسؤال كالآتي ( اسد اذا لم يأكل الغزال يموت والغزال اذا لم يهرب يموت ، تساعد من ؟ ولماذا؟)
عند كتابة العنوان على السبورة انطلق التلاميذ بسرعة بكتابة الانشاء مجرد رفع كلمة ( الله) واسناد العمل لهم !؟ وقد كتب ٧٣٪ مساعدة الاسد ، و٢٧٪ ساعدوا الغزال .
هذا السؤال كررته خمس سنوات وبنفس الاسلوب على كل دورة جديدة واحصل على نفس النتائج : لا يكتب التلميذ مع وجود كلمة الله ، ويكتب اذا اسندت اليه المساعدة وبقي الاسد يتربع على النسبة الأكثر ! وسألتهم وهم بالإعدادية او الجامعة او تخرجوا هذا العام او تركوا المدرسة ، فيهم من تذكر السؤال وفيهم من لم يتذكره الا انهم مع الله تغير الجواب : الله اعلم او ادرى او ابصر ( وشدراني ، الله وبكيفه ) ..
هنا حاولت اعرف عن موضوع قرأته قديما وظل عالقا بذهني ، لاني بين الاقتناع به وعدمه ، وهو عن الدكتور علي الوردي رحمه الله وقد يكون اول من قاله او ربما سمعه او قرأه من غيره لكن علماء الاجتماع بعده يرددونه الان بعده وهو ان الشخصية العراقية متهمة بكلمة ( شعليه ) الكلمة عامية تعني ( لا عليّ بهذا الأمر) ، فهل صحيح هذه العبارة او الكلمة ؟ وهل لها اثر سلبي ام ايجابي ؟ وما دور الدولة والقانون فيها؟
لعل من بعض المبررات لكلمة (شعلية) ان الشعب العراقي وعلى مدى تاريخه تعرض للاضطهاد من قبل الحكام ، وميولهم الى جهة دون أخرى ، ان كانت دينية او مذهبية او قومية ، وذلك الميول من قبل الحاكم جعل السلطة والمال والقرار والوجاهة والترف في فئة معينة وجعل الحرمان والقهر في الفئة او الفئات الأخرى ، وقد عللوا ان ( شعلية) خلقت بالشعب العراقي عامة وببعض الفئات التي ظلمت على مدى التاريخ ولم تحصل على الحكم ، خلقت منه شعبا مزاجيا، وقد علل اخرون ان المزاجية بالعراق هي نتيجة طبيعية امتداد للارض وتأثيرا بالمناخ واستدلوا على رواية تعددت اطراف الرواة واختلفوا على خليفتها الراشدي ، ان الخليفة شارد الفكر فسألوه عن الخطب فقال كلما ارسل واليا للعراق لم يرضوا عنه ؟ بينما علل بعضهم ان الاضطهاد الذي عاشه العراقيون منذ القدم وان الحضارات والبناء والتطور جاء بسبب الفئوية او الميول لفئة معينة ، من دون اخرى اضافة الى الاحتلال الذي اصاب البلاد عبر تاريخه الطويل !
يرى كتاب التاريخ وعلماء الاجتماع والساسة والمفكرون في نهاية المطاف ان الشعب العراقي ( مزاجي ) اي انه يهوي لساعة فلان ثم مايفتأ الا وعدل عنه وتاريخه حافلا بالمزاجية كما يشهدون على تملل علي بن ابي طالب ع منهم بخطبه ، التي تكلم اكثر من مرة عن تملل ومزاجية الشعب العراقي عكس مايملكه معاوية من شعب بالشام بثبوت المزاج واتباع طريق قائده حتى عبر عنه معاويه انه شعب مطيع لايميز بطاعته الناقة عن الجمل ، بينما الشعب العراقي كان اذا قال عنهم الخليفة نغزو صيفا قالوا حارة واذا قال شتاءا قالوا باردة ، لكن الشعب العراقي والشعوب العربية تاريخيا شعوب ( رحّل) اي ان الشام فيه القبائل العربية نفس الجذور بالعراق واليمن والجزيرة ومصر الخ ، فلماذا يتغير العربي هل فعلا ان الطبيعة والارض لها اثر ، ام انهم عبر الاكتساب ليتحول طبعا حين يجدوا المجتمع هكذا ؟
يظهر من اجابة التلميذ ان الشعب العراقي غير مزاجيا لا بالتاريخ ولا بالطبيعة والدليل ان التلميذ الذي بين الادراك الحسي الكامل وهو يقترب من المراهقة ( ١١-١٢) سنة ، لم يجب عند اسناد الأمر الى غيره ، وخاصة حين يعلم ان من اسند اليه حسيا انه لايخطأ ابدا فتوقف عن الكتابة لانه يدرك ان الاجابة عن الذي لايخطأ خطأً ، كما انه لا يمكن ان يجيب بدل أحد او بالاحرى لايجهد عقله عن الاجابة والتفكير بدل الاخرين .
التلميذ لم يدخل الى معترك الحياة بعد ولم يصدم بعد بالواقع المر من نفاق وكذب وخداع وقتل واضطهاد ، ولم تكن له مدارك عقلية يحاول ان يحلل ضمن النصوص التشريعية ، ليصل لحل ما او يقترب من حل ، بل كل تفكيره وانتاجه هو عاطفي بالدرجة الاولى والعقل مجرد توظيف الكلمات وترتيب القراءة ، وبهذا لو كان شعبا في جذوره الخوف من الاضطهاد او انه من اصله او من الطبيعة تركيبة ( شعلية ) التي يرددها الباحثون على ان الشعب العراقي مزاجي ، لكتب التلميذ وتملق واختار الاقوى او الاضعف من دون تردد، ولظهر قدراته التخمينية المتأصلة في جذوره ، لكن لكونه مكتسب، ،اخذ يثور ويصل للثورة وعندما يصدم بقوة يتراجع المجتمع ضمن مزاج فيه ليتخل عن بعضهم البعض بكلمة ( شعلية) لتنتهي كل المسارات التي يقودها الشعب الى الفشل ،ويرى الباحثون بان الشعب بمزاجيته صار يسند امره الى غيره وهو شعب ( انتكالي ) اي يعتمد تفكيرا وعملا الى من يقوده بسبب تلك المزاجية العالية ، التي جعلته شعبا متقلبا لايثبت على رأي ! وان القوة الوحيدة التي تستطيع ان تحكمه هي القوة ( الديكتاتورية) او شخصية المستبد الذي يتحمل المسؤلية والشعب بمزاجيته لايتحمل المسؤلية..
أعتقد ان هذه الاراء خاطئة وقد زرعها رجال السلطة ان لم يكن الاحتلال - ان ابتعدنا عن المؤامرة - عبر تاريخه الدامي ، وان الشعب العراقي شعبا ولودا ، ولم تكن هذه المزاجية إن وجدت إلا نفعا فبالمزاجية إشارة إلى إن الشعب العراقي سريع التأثر والاكتساب وان شخصيته منفتحة وان عقله متنور قابل للتعلم والاكتساب بسرعة ، هذا ما يجعله متقلبا لأنه يكتسب المعرفة والتقليد وسرعان ما يجد انه غير صحيح فيخلعه إلى أسلوب أخر ، وكل الأساليب التي جاءت هي أساليب خاطئة انبثقت من الاحتلال أو الطغاة الذين يحكمونه وسرعان ما يخلعون محتل ليدخلوا إلى طاغي يؤيده الشعب ثم يعرف انه جاء ليس لمصلحته بل للتفرد بالسلطة لذا يبدأ بمرحلة جديدة وكل مرحلة يصيبه الوهن والتعب والشعب العراقي إذا وجد له عين ساهرة وقلب صاف وقائد يعلو به إلى تحقيق العدالة ، فانه سرعان ما يتغير وينتج ويصحح مساره بسرعة ، ويكون شعبا حضاريا يمتد ويستفاد من أخطاءه التاريخية ، ويتعمق بالحضارة التي بدأت به وستظل به ، متى ما جاءته الفرصة يهب ، متى ما بني بالتعليم والقيادة الجيدة سينهض بسرعة ويستيقظ من غفوته.
لعل ابرز ما في الشعب العراقي هي طريقة تفكيره التي تتصل بالقائد وتنفصل عنه ، إي أنها لم تكن على صلة مستمرة وهذا يجعل الشعب يقود نفسه على الرغم الإرهاصات السياسية المستمرة والقيادة المستبدة التي حكمته عبر زمن طويل ، والتي سعت لتغيير أيدلوجيته بالتبعية والانقياد بالإجبار، وان التنوير عبارة عن فسحات فردية عبر مؤسسات دينية وفكرية منفردة توعي الشعب وتكسبه معطيات المقاومة على الرغم إن الحكام حالوا تحيير الفكر العراقي بالمدارس والتعليم الحكومي إلى هذه اللحظة للانقياد الأعمى وليس للتنوير تحت مسميات الثورة والديمقراطية والحرية الخ باستخدام أساليب بشعة بجعل الشعب ينحرف من خلال بعثرة تعليمه من جهة وتنظيم تعليم آخر يدعو للتفكير السلبي بأنه لا يستطيع إن يقود نفسه وانه شعب غير ولود للقادة والأفكار وان المزاجية يحتاج لها ديكتاتوري كي يستطيع إن ينهض بالبلد وان التفكير الفردي هو الناجح والجمعي يذهب بالبلد للانهيار وبه تكونت تجمعات استبدادية تنطوي على فكرة الديكتاتورية وتوارث الرئاسة كمشيخة باسم أحزاب دينية ووطنية وفدرالية وشعبية وعشائرية.
اليوم الدولة تشارك بتعزيز الفردية بشكل جمعي ، إيحاءا منها للتطور إي أنها تحاول تحكم الشعب فرديا بصورة توحي له بأنه تطور ديمقراطي وتعدد أحزاب ، وكل هذه الأحزاب من المنظور الخدمي للشعب هو منظور فردي إي تكافلت وتآلفت وتحالفت ضمن تكوين واحد البقاء بالسلطة وخدمة نفسها ، وتشتيت فكر الشعب الذي بدأوا يصرخون بأوساطه من خلال إفراد أحزابهم ان الديكتاتورية هي الحكم الانسب وان الشعب العراقي شعب مزاجي متخلفا لايمكن ان ينهض وقد بدأت بهدم التعليم إكمالا للسلطة السابقة التي جيرته كليا الى السلطة وابقته على حاله لأنها أدركت إن السلطة السابقة قامت بتطويع التعليم لتطويع الشعب للسلطة وتجريده من التفكير وصنع القرار ومواجهة الظلم ومقارعته، فغيرت أغلفة الكتب وأبقت على شخصية المعلم شخصية غير مكتملة خوفا من ان يصنع جيلا ينهض بالشعب ويخلق منه قوة القيادة بالتفكير الصحيح بدل التصفح بكتاب الاستبداد يقلب الحاكم اي صفحة منه يريدها من حيث شاء فيمزق او يحرق اي صفحة لا تعجبه او يشطب سطرا او يضيفه، مثلما أضافوا كلمة طائفية - مثلا - وخلع الكلمة من منظورها وجوهرها الجميل وأفرغوها من محتواها المرتبط بالعلوم المختلفة التي يحملها مجموعة من الناس يتشكل منه الشعب العراقي ، فتحولت لكلمة بغيضة يكرهها الشعب ويعتقد انها عبارة موازية للجهل لينسى المسلم ان قرآنه الكريم قد طرحها لتكون عبارة للتعلم والتنوير ( ولتكن كل طائفة منكم)، وأصبحت الفئوية عبارة مكتملة للأحزاب وكلمة مألوفة للإسماع كأخواتها الحزبية والكتلوية والتجمع .. الخ وظلت لتكن طائفة عبارة تحت مطرقة الجهل تقبع بسجونه كي تصرخ بالنهاية ( شعلية) وكي تبقى ( شعلية ) تفكير الشعب المطلق من اجل خدمة الحكام.
المعيار الحقيقي للشخصية العراقية انها منتجة مكتملة ، وان التطرف والجهل حوادث مكتسبة سرعان ما تنهار امام اي قيادة يشعر بها الشعب العراقي انها بصالحة.
والشخصية العراقية هي ذات قرار شخصي ، خضع بالاكتساب وليس بالطبيعة فكل الأجيال القادمة قابلة للتغيير ، وهذا ما يجعل ( المزاجية) التي روج لها الحكام وكتابهم سمّة جيدة وليس ذميمة لانها تعتبر انطلاقة للتغيير ، إذ من الممكن لو صحت حكومة نزيهة وجادة في بناء البلد في تغيير الشعب نحو الأحسن فان الشعب قابل بسرعة للتغيير . وانه اقرب شعب لتطبيق القانون وهذا ماظهر في هجرة العراقيين للدول الأجنبية والتزامه بالقانون واكتسابه الثقافة بسرعة حتى بعض من تهجروا كانوا لا يقرأون ولا يكتبون ولكن سرعان ما انضبطت بهم الثقافة وانتظم القانون ، فالشعب العراقي قريب جدا من التغيير ، لكن مع الأسف كما أسلفنا كل تغيير يأتي ينتظم وينصهر ببوتقته الشعب لكن سرعان ما يجد ان التغيير هو عبارة انقلاب ظالم على ظالم وليس مظلوم على ظالم ، او يجده تغيرا تغيرا لم يأت للعدالة بل جاء للفئوية التي يخدمه وتخدمه اي كانت هذه الفئة محسوبة على دين او مذهب او حزب او قومية او أيدلوجية مكتسبة ام موروثة معدلة ، فيعود مرة اخرى كسيزييف يحمل الصخرة الى قمة الجبل وقبل الوصول للقمة تتدحرج وهكذا بقى الشعب يخسر أبناءه الأخيار من التصحيح المستمر .. ويظل بانتظار انطلاقة جديدة تحدد باختياره للاقوى وارتباطا بعنوان الشجاعة التي اختارها للأسد والرأفة المتمثلة بالجزء الثاني منه والذي يكمل بعضه البعض كي يرقى الى مجده الذي مرسوم امامه ويتجاوز كبواته ... ليظل شعبا حرا يختار لنفسه ويقرر لها ما يريد بالطبيعة والاكتساب والحضارة والموروث ...