إن صلة الرحم هي الدليل القوي على مدى حُبك وتعقلك بالله سبحانه وتعالى لما فيها من مجاهدة للنفس وعدم الخضوع لها، فصلة الرحم شعبة من شعب الإيمان، وبها يستدل على من قوي إيمانه ومَن ضعُف، وإن شكر الوالدين يكون بالقلب بمحبتهما ومحبة الخير لهما وإجلالهما والشفقة عليهما، ويكون باللسان بالاعتراف بفضلهما والقول الكريم اللين لهما والشكر والثناء عليهما، والبعد عن كل قول فيه إساءة لهما، ويكون بالجوارح بخفض الجناح للوالدين، وفعل كل ما هو بر وحسن وجميل لهما، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على راهب، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفساز
فهل له من توبة؟ فقال لا، فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على رجل عالم، فقال إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ قال نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة" رواه مسلم، فإن من أراد رضا الله عز وجل فعليه أولا أن يرضي والدية، فإن الأم علي مر العصور والدهور والأيام هي البطلة الصامدة، المخلصة المجاهدة.
نبع الحنان والشفقة، ووعاء الرحمة والرأفة، أوفى صديق، وأنصح رفيق، فإنها هي مَن قامت لك بدور الممرض والطبيب، والمربى والمعلم، جندية حيث لا جند ولا قتال، حارسة ساهرة حيث لا ثغور، مخلصة في عملها ولا يخلص في البشر مثلها أحد، تجهد بدنها وقلبها ليلا ونهارا، وليس لها راتب يصرف آخر الشهر، التي اهتم الشرع الحنيف بها، وحثَنا على حسن معاملتها والإخلاص في برها، إنها الأم، ويقال إن الأم ليست فقط من تنجب الأطفال، بل هي أيضا من تربيهم، وهذا الكلام صحيح لا شك فالأم في الأصل هي الأنثى التي تلد الأبناء ثم ترضعهم وتربيهم، وتبقى تحبهم وتحنو عليهم ما دامت الروح تسرى في عروقها وأيضا يمكن أن تعد من الأمهات المرأة التي تربى أبناء ليسوا من صلبها، ولذلك فقد كان لها مكانة عالية فى الإسلام وخصها رب العالمين سبحانه وتعالى بثناء كبير في القرآن الكريم.
إذ قال " ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن" وقوله تعالى " ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها" فإن الأم هى كائن رقيق المشاعر حنون حساس يرى في أبنائه الجانب الطهر ويغض الطرف عما سوى ذلك، يدافع عن ابنه ويحميه إن أصاب وإن أخطأ، فهي العطوف الوديعة الرؤوم مع أبنائها، والتي تصير وحشا كاسرا إن مس أولادها سوء، أو داهمهم خطر ما، وهى الصدر الذي يتسع لكل أبنائها، وهى التي لا يفيها الابن حقها ولو اجتهد، هي مفتاح العبور إلى الجنة، إذ الطريق يمر من تحت قدميها وهى التى تعطي أبناءها إحساسهم بقيمتهم في الحياة، فلولا وجودها لما وُجدوا أساسا، وهى التى تمحو الهموم عن أبنائها إذا ما أطبقت الشدائد عليهم، فكلمة منها كفيلة بإزالة جبل من الهموم ولو كان مطبقا وجاثما على صدر ولدها.