نشرت جريدة صوت الأزهر مقالا للكاتب حسن إسميك تحت عنوان: "الأزهر منبر الدين والعلم والكلمة الجامعة"، ناقش فيه حال الأمة الإسلامية والجذع القوي الذي يستند إليه الملايين من أصحاب العقيدة "الجامع الأزهر"، الذي نجح منذ أكثر من ألف عام أن يصبح منبراً للعلم كما للدين، بعد أن صار جامعة ساعدت شهرة القائمين بالتدريس فيها وسعة اطلاعهم في مختلف العلوم والفنون على استقطاب الطلبة من مختلف أنحاء العالم، ومنحت خريجيه منزلة سامية حين عودتهم إلى بلادهم.
وقال إسميك، في مقاله، إلى "حظي الجامع الأزهر بمنزلة عظيمة لدى المصريين، لم يبلغها أي مسجد آخر"، فيذكر الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه "لمحة في تاريخ الأزهر" أن المسجد وبعد فترة قصيرة من إنشائه سنة 359 هجرية، تحول إلى مكان يلوذ به المصريون إذا اشتد بهم خطب ما، وحصل ذلك مرات عدة.
تابع: يوصف الأزهر بـ "الأيقونة المصرية"، هذا توصيف جميل، لكنه غير دقيق من حيث الكفاية بالنظر إلى الدور الأزهري الذي تجاوز الحدود المصرية وامتدّ تأثيره عربياً وإسلامياً، وحتى عالمياً، فرغم اقتصار التعليم فيه على النواحي الدينية في البداية، لم يلبث أن تحولّ إلى قبلة للعلوم المختلفة، مثبتاً عدم التعارض بين العلوم الدينية والعلوم الحديثة جميعها. وهنا برزت النقطة الأقوى في "التأثير الأزهري" وهي قدرته على استقطاب العقول الإسلامية بالدين والعلم معاً، حاملاً لواء الوسطية والاعتدال في مرحلة مبكرة ومحافظاً على هذا النهج حتى يومنا هذا.
هذا التأثير العابر للجغرافيا، مضافاً إليه الموقع المهم لأرض الكنانة والدور السياسي الذي لعبه الأزهر في الحياة السياسية المصرية، وتحوُّله إلى عامل موحِد، ثم دوره العظيم في النهضة الفكرية في العالمين العربي والإسلامي من خلال طلابه وخريجيه، ودوره في تشكيل وحماية الهوية الثقافية العربية الإسلامية... كلها عوامل ومقومات تدفعني إلى الدعوة لإعادة الحسابات، ومحاولة الاستفادة من الميزات الكثيرة التي لا تتوافر في مؤسسة دينية أخرى؛ أرى من الصواب أن يكون للأزهر الشريف حضور واسع في آسيا وأفريقيا وأوروبا والأمريكيتين، ما يمنحه صفة المرجعية التي بتنا نفتقدها اليوم كمسلمين معتدلين، ومن شأنها أن تمنحنا قوة نحن بأمس الحاجة إليها في ظل تنامي التيارات المتطرفة التي تشوّه صورة الإسلام الحقيقي السمحة، وتؤجج حالة "الإسلاموفويبا" وتزيد من انتشارها في العالم.
تنبع وسطية الأزهر من وسطية الإسلام بالأساس، وكما شكلت هذه الوسطية عامل جذب إسلامي وعالمي "للجامع–الجامعة"، كان لوجود الأزهر وإرثه العريق دور مهم في الحفاظ على هذه الوسطية وحمايتها، خاصة في المرحلة التي نعيشها اليوم والتي تختلط فيها المفاهيم، وتتعدد المرجعيات المضلِّلة، وتتنوع وسائلها وأدواتها. ومن المفيد في هذا الصدد استذكار الخطوة المباركة التي قام بها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي عام 2011، حين أطلق مشروع حفظ ونشر مخطوطات الأزهر إلكترونياً، مؤكداً على دوره في الحفاظ على التراث العلمي الإسلامي وخدمة أبناء الأمة الإسلامية.
فوصول المكتبة الأزهرية التي تضم أكثر من 50 ألف مخطوط تقع في 8 ملايين ورقة يرجع تاريخ بعضها لأكثر من 1000 عام، إلى جانب 53 ألفاً من أمهات الكتب وأوائل المطبوعات، إلى مختلف فئات المجتمع الإسلامي أمر بالغ الأهمية في استكمال الدور التنويري الذي بدأه الأزهر، بطريقة مبتكرة وحديثة، وأسلوب يجاري العصر ومتطلباته وتحدياته.
ربما كان هذا المشروع المهم هو العامل الذي حفَّز على إنشاء مرصد الأزهر باللغات الأجنبية عام 2015، والمعني بمتابعة كل ما ينشره المتطرفون من أفكار ومفاهيم مغلوطة، والردّ عليها بموضوعية وحيادية وبالحجة الدامغة، ومن ثم قيام قيادات الأزهر بتطوير منصات التواصل الاجتماعي لآليات جديدة تعمل على مكافحة خطابات الكراهية، الأمر الذي يعني عودة الجامع للاضطلاع بدوره التاريخي في التنوير الإسلامي وحماية المسلمين وإرشادهم روحياً،
ويعيد بناء مكانته التي عبرّ عنها الشاعر أحمد شوقي فقال: قُم في فم الدنيا وحَيّ الأزهرا.. وانثر على سمعِ الزمان الجوهرا.
وإذا كنا نريد ألاّ يفقد هذا "الجوهر" قيمته في أي زمان كان، يجب علينا النظر إلى ما يحتاجه الأمر لتعزيز هذا الدور والمكانة بدءاً من الإصلاح الداخلي الذي ينادي به كثيرون من داخل الأزهر نفسه، وتقويم الأصوات النشاز التي حادت عن الاعتدال الأزهري الجامع وبدأت تتأثر بالتطرف والغلوّ الذي طبع الحركات الإسلامية عامة خلال السنوات السابقة. وإلى جانب ذلك، فإن العمل على ترسيخ وجود الأزهر في معظم دول العالم وتشجيع الدول الأوروبية وإفريقيا والأميركيتين على اعتماد بعثات دائمة للجامع، كفيل إلى حد كبير بنبذ العنف والتطرف الذي باتت تعاني منه هذه الدول أيضاً منذ سنوات، والدعوة هنا إلى الاقتداء بالمرجعية المسيحية الأساسية المتمثلة بالسلطة البابوية حين أدركت أهمية دور الأزهر وتأثيره،
وتجلى ذلك في توقيع اتفاقية "الأخوة الإنسانية ضد التطرف" بين الأزهر ممثلاً بإمامه الرجل الإصلاحي المتنور الشيخ أحمد الطيب والبابا فرانسيس في مدينة أبوظبي بدعم كبير من ولي عهد ابوظبي الشيخ محمد بن زايد عام 2019.
كما أن هذا التعاون بين المرجعيات الدينية الكبرى يطرح مسألتين مهمتين في طريق الوصول إلى جعل الأزهر مرجعية إسلامية عالمية:
تتعلق الأولى بتمويل هذه المؤسسة الذي تتحمله الدولة المصرية وحدها حتى اليوم، فبمقارنة بسيطة مع الإمكانيات الوفيرة التي يتمتع بها الفاتيكان واعتماده عليها لترسيخ سلطته الدينية الروحية في العالم، نجد أن من واجب العالم الإسلامي دعم هذه المؤسسة الأقرب إلى صورة الإسلام الحقيقي بكافة الوسائل؛ وذلك بالتنسيق والتعاون مع الدولة المصرية وتحت إشرافها، وإن من شأن ذلك دعم الدور العلمي والديني للأزهر، وبالتالي تدعيم وجوده كمرجعية معتدلة تسعى لأن تجمع المسلمين على كلمة حق، وتعيد بناء المجتمعات العربية بالاستناد إلى دين يهتم بالإنسان وحياته ونموه وتطوره.
أما المسألة الثانية، فتناقش فكرة تمثيل دبلوماسي مستقلّ للأزهر، بحيث يتم تعيين سفير للأزهر في كل دولة بالتشاور مع وزارة الخارجية المصرية، يكون مرجعاً للجالية المسلمة ويعمل على الرد بشكل صحيح وموثوق على أي استفسار يرد من حكومات تلك الدول حول مسائل الدين الإسلامي أو أوضاع المسلمين من الناحية الدينية، وتُعدّ تجربة السفارات البابوية نموذجاً مُشجعاً في هذا السياق.
وبالطبع، فإن خطوة كهذه لن تحدث إلاّ إذا دعمت الدولة المصرية ووافقت على ألاّ يكون ترشيح الإمام مقتصراً على المصريين، بل أن يشمل علماء الأمة الإسلامية من خلال انتخابات داخلية بين هيئة كبار علماء الأزهر، الذي يجب أن يتكون من خلاصة علماء الأمة قاطبة، كما يحدث عند اختيار الحبر الأعظم (بابا الفاتيكان).
من شأن مثل هذا الأمر أن يمنح الأزهر الشريف قوة ساطعة، تنير شمسها من أرض الكنانة إلى العالم كُلّه، فيتحقق مرادنا بنشر تسامح ديننا الإسلامي الذي بات عرضة لهجوم القاصي والداني بحق أو دون وجه حق.
كما يتطلب تحقيق ذلك أن يقوم الأزهر بزيادة كلياته الشرعية في دول العالم الغربيّ والشرقيّ، فتكون منارة لتدريب وتخريج أبناء الأمة في كل مكان، وتؤهلهم ليسهموا في نشر التوعية المبنيّة على تقبلّ الآخر المستندة إلى روح الدين الإسلامي، وهو مطلب ملّح في ظلّ موجات التشدد وانتشار التفسيرات الخاطئة لأحكام القرآن والأحاديث النبوية الشريفة، والتي تُسيء إلى ديننا الحنيف كما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم، وتشكلّ أساس ظهور المنظمات الإرهابية التي تدّعي أنها تُعلي راية الإسلام وهي بعيدة عنه كلّ البعد.
كما أنّه يساعد على الوقوف في وجه جهات سياسية تعمل على استغلال عواطف المسلمين ونشر الأيديولوجيا التي تبث روح الفتنة لتحقيق مآربها.
وحيث أن العصر الحالي يوصف بأنه عصر التكتلات الكبرى، فإن من شأن اجتماع المسلمين على كلمة واحدة موِّحدة معتدلة إكسابهم قوة سياسية واقتصادية وإنسانية، ولن يصبح ذلك ممكناً دون وجود مؤسسة مرجعية تحظى بالثقة والقبول، تأخذ على عاتقها عبء الدفاع عن القضايا الإسلامية والعربية على بساط من التسامح والعدالة والسلام، بعيداً عن العنف وخلق المزيد من الأعداء وتشويه صورة الدين الحقيقية، واعتقد أن ألف عام من الحضور والفاعلية يُعدّ رصيداً كافياً لمؤسسة عريقة كالأزهر لتكون المرجعية المرجوّة.
وعبر عن تفائله لحظي مصر في هذا الزمن الصعب بقائد تاريخي ورجل دولة لامع يهتم بالتطوير والتحديث، هو قائد مصر العظيمة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي يتجه بمصر نحو التركيز على انفتاح العقل والتنوير من خلال دعمه اللامحدود للأزهر، وهو رجل يمارس التديّن بشكل صحيح من دون مبالغة أو سعي لاستغلال صورته أمام شعبه، كما فعل سلفه.
كما أن شيخ الأزهر الشريف الإمام أحمد الطيّب، الرجل الإصلاحي والداعية المتنور والمنفتح على كل العلوم، فقد كان علامة فارقة في تقلّد هذا المنصب، فغيرّ كثيراً من وجه الأزهر، حين دعم منهجية التفكير الفلسفي العقلاني، تلك المنهجية التي نتباهى بها نحن المسلمين منذ زمن الدولة العباسية، والتي خرّجت الأئمة الكبار مثل الشافعي والحنفي وابن رشد وابن خلدون والفارابي وغيرهم، وأزاحت عن كاهل الأمة الإسلامية عبء التعصب والفتاوي المُضلّة التي جعلت منا أمة هشّة، لتحل محلها فتاوي قيّمة تُعيد للمسلم نَزعة العقل الغائبة منذ سنوات طويلة، ولعلّ هذا ما نحن بأشدّ الحاجة إليه في زمن صارت التكنولوجيا فيه أشبه بالدين بالنسبة للأجيال الجديدة؛ دين ستندثر فيه المبادئ السامية والأخلاقية لديننا الإسلامي.
علينا إذن أن نستغلّ فرصة وجود الرئيس السيسي المهتم والمتابع لكل شؤون الدولة، وأيضاً وجود شيخ الأزهر صاحب الثورة الإصلاحية في تجديد الخطاب الديني لنجعل من الأزهر قوة كبيرة تدفع نحو حفاظنا على قدسية الإسلام والدعوة له بشكل صحيح، ونشر المحبة والسلام والتعايش في جميع أنحاء العالم.