إن هذه الظاهرة السيئة ظاهرة الشخصية الإمعة أو المطبلاتيه موجودة اليوم في واقعنا بكثرة، ومنتشرة في مجتمعنا انتشار النار في الهشيم على كل المستويات ، ومن المطبلاتيه أو الإمعات أولئك القوم الذين يتّبعون غيرهم على الضلالة، ويمشون خلفهم على الجهالة ، ويرقصون وراءهم ببهلوانية وسذاجة، ويندفعون معهم اندفاعا عشوائيا بلا هدف واضح، ولا معالم معروفة.
فالإمعة أو المطبلاتى وصف كريه، لا يليق بالمسلم ، لأن الإمعية لا ضابط لها، وهو انقياد ما يفعله الناس ولو أفعالهم سيئة، ولا مروءة فيها، ولا حياء ، ووالإمعه هو الذي لا رأي له، فهو الذي يتابع كل أحد على رأيه، ولا يثبت على شيء، وضعيف العزم، كثير التردد، قلبه محضن للدخل والريب، تجدونه يوما يمانيا إذا ما لاقى ذا يمين، وإن يلاق معديا فعدناني، وهذا هو الإمعه الممقوت .
وهو الإنسان الذي ليس له مبدأ وليس له رأي، ويصفونه بقولهم ، معهم معهم، عليهم عليهم وهذا عيب خطير حذرنا منه النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال " لا تكونوا إمعةً تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تُحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا " رواه الترمذى .
ولقد حرم الإسلام التقليد إلا فيما يفيد، تقليد في الحق يعز ولا يذل، فتقليده صلى الله عليه وسلم اتباع، وتقليد العلماء اقتداء، وتقليد الجهال ابتداع ، ولقد كنا أمة قائدة ومؤثرة ورائدة، فلماذا تصبح الآن منقادة ومتأثرة وتابعة، تسفل بعد علو، وتتأخر بعد تقدم، وتنهار بعد ازدهار، لا تثبت على مبدأ ولا منهج، ولا تتمسك بخلق، بل تتخلى عن كل مقومات تحضرها وتهملها، وتلهث خلف سراب حسبته ماء .
وإن الإنسان عندما يكون إمعة فإنه سيكون ضعيف الشخصية، وضعيف العقل والدين، يعيش بين الناس ذليلاً تابعا لغيره، عالة على الآخرين، منبوذا من ربه، مكروها عند خلقه ، ويجب على كل من أراد التخلص من الإمعية وضعف الشخصية أن يصاحب الصادقين، الرافضين للتذبذب، الذين لا يستسلمون للواقع السيئ، ولا يحبون الدوران في فلكه .
ويسعون دائماً إلى تغيير أنفسهم وإصلاح مجتمعاتهم، ولا يرضخون أبدا تحت أي ظرف من الظروف إلى بيع ثوابتهم ومبادئهم، فتراهم منعزلين عن أهل القنوط والتثبيط والراكنين إلى الدنيا، اللاهثين خلف كل ناعق، المتبعين لكل جديد ولو كان سيئا.
وإن ديننا الإسلامي الحنيف يربي أتباعه المتبعين له على الإبداع وقوة الشخصية، والبعد عن التقليد وذوبان الشخصية، فالإسلام لا يريد الرجل الإمعة المقلد للغير، الفاقد لشخصيته، المسلم عقله لعقول الآخرين، وإنما يريد الرجل الفطن المتميز بعقله، المستسلم للحق، المتبع له ولو كان وحده.
ولقد ذم الله سبحانه وتعالى ، هؤلاء الإمعات الذين لا رأي لهم ولا استقلال، ولا يفكرون بعقولهم، ولا يستفيدون منها في البحث عن الحق وأتباعه، وكل ما يهمهم هو اتباع الوجهة التي توجه إليها فلان، والسير خلف الراية التي سار خلفها علان، فهم متبعون لكل ناعق، يجرون وراء كل داعي بلا روية، ولا اتزان، ولا تفكير.
فهؤلاء هم الإمعة الذين إن أحسن الناس أحسنوا، وإن أساءوا أساءوا، فلما أساء آباؤهم ولم يحسنوا تبعوهم في إساءاتهم، وقلدوهم في سيئاتهم، ومشوا على طريقتهم، فضلوا كما ضل آباؤهم، وكفروا كما كفروا، والسبب هو التقليد الأعمى، فهم مجرد نسخات لهم، وإلا لو أعملوا عقولهم، ونظروا ببصيرتهم، ولم يسلموا عقولهم لغيرهم لما وقعوا في الكفر والضلال
فشبههم الله سبحانه وتعالى ، بالبهائم التي ينعق عليها صاحبها أو راعيها، ولكن ليس لها علم بما يقول راعيها ومناديها، وكذلك هم، فإنهم يسمعون الصوت الذي تقوم به عليهم الحجة، ولكنهم لا يفقهونه فقها صحيحا ينتفعون به، فلهذا كانوا صما لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول، وعميا لا ينظرون نظر اعتبار وادكار، وبكما فلا يتكلمون بما فيه خير لهم.
والسبب في ذلك كله أنه ليس لهم عقل صحيح يميزون به، ولا تفكير متجرد يحكمون بموجبه، فهم أسفه من السفهاء، وأجهل من الجهلاء ، لأنهم لا عقل لهم يوجههم ويرشدهم ، فهل بعد هذا الذم من ذم لهذا الصنف، صنف الإمعات المقلدين؟
وبمحاربة هذا المسلك الأعوج جاءت الشريعةُ الإسلامية ، لتصنع من شخصية المسلم شخصيةً تجمع بين تحقيق العبودية، واستقلال الشخصية، فلا تخضع إلا لسلطان الشرع المطهر ، فنهت عن التشبه بالكفار، ونهت الرجل عن التشبه بالمرأة، والمرأة عن التشبه بالرجل ، ومن اوجب الواجبات على كل مسلم ان يعلم ان عزته وكرامته تكمن في تمسكه بدينه الاسلامي والالتزام بأحكامه والتأدب بآدابه والوقوف عند حدوده وانه مهما ابتغى العزة بغير ذلك فلن يزيده الله الا ذلة وخسارا.
ومن الإمعات بعض المثقفين والمنتسبين للعلم، الذين تراهم يكثرون من التلون والتناقض والاضطراب، ليس لهم سمات محددة، ولا مواقف معينة، ولا اتجاه فكري ثابت، فكل يوم بمذهب، وكل ساعة برأي جديد واتجاه آخر، لا يثبت على شيء، ولا يتمسك بشيء، وما هذا إلا لأنه لم يصدق مع الله، فلم يصدق الله معه.
وترى كثيرا منهم يعلمون الحق، ويعرفون أن ما يسير عليه قومهم هو الباطل، ومع ذلك فهم مع أقوامهم على الحق والباطل، ويستميتون معهم بكل عصبية وعنجهية، يرونهم يقعون في الضلالة فيقعون مثلهم فيها، أو يعلمون أن ما يقوم به كبراؤهم هو من جنس المحدثات والبدع والشركيات، ومع ذلك يؤيدونهم ويشاركونهم في بدعهم، وضلالاتهم .
فهؤلاء يجب عليهم أن يتقوا الله في أنفسهم، ويتركوا الاحتجاج بالحجج الواهية التي تجعلهم يسايرون قومهم في كل شيء، ويستصعبون الخروج عن المألوف الذي مشى عليه أئمتهم الذين يقتدون بهم، ويحرصون على القول بآرائهم، واعتقاداتهم، ويسلمون لهم تسليما مطلقا.
فأوصي نفسي وإياكم بالحزم، والاعتزاز بالنفس، والاستقلالية في الذات، وتنمية المواهب والقدرات، ومحاولة الرقي والتجديد والابتكار، والافتخار بالثوابت والقيم، والبعد كل البعد عن التبعية والروتينية والإمعية، أو السير خلف الشائعات والخرافات والشعوذات، أو الظهور بمظهر التلون والتذبذب والتقليد الأعمى، أو بتقمص شخصية الآخرين والذوبان فيهم كما يذوب الملح في الماء، فديننا يدعونا إلى معالي الأمور وأشرافها، ويكره لنا سفسافها ودنيئها.
وها هو رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، يُعلّمنا كيفية تربية الأطفال وزرع ثقتهم بربهم عز وجل ، فيقول وهو يعلم ابن العباس " يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظْك، احفظ الله تجده تجاهَك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم يَنفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يَضرُّوك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحُف "
فلا تبيعوا أنفسكم وعقولكم لأحد، فإنكم عندما تتبعون الجهال، فلن تكون النتيجة إلا المزيد من التخلف الذي يهيمن عليكم، فإن المستقبل الذي لا بد من أن نصنعه هو مستقبل علم وقوة وإرادة وإبداع يعيش في عقولنا وحياتنا، والعالم يتقدم علميا، فلماذا نبقى في وهدة الجهل ، ولماذا ندمن التخلف والجهل والخوض في الوحول والينابيع بين أيدينا