ربما تمر على المرء بعض الأحداث وتعلق في مهب الريح ولكن بعضها يمر عليه وقد ترك بصمةً داخل روحه تاركًا بعض الحنين كلما تذكره وخاصةً إذا تمثلت تلك الأحداث مارةً بالمعنى الحقيقي للصداقة.
كنا أنا وصديقاتي الثلاثة ونحن ما نزال في مقتبل العمر نحمل كتبنا ونحتضنها احتضانًا يحاكي حبنا للحياة.. نسير متشابكي الأيدي إلى المدرسة الثانوية.. ترشدنا كل السبل إلى التآلف والمحبة والبهجة.. لم تكن هناك من متعةٍ تعادل متعة لقائنا اليومي ونحن في طريقنا إلى المستقبل.. كان الشارع الذي نسير به كل يوم معهودًا في مرورنا عليه.. نفس البيوت والحانات وكل شئ.. إلا أن هناك مشهدًا ثابتًا كثبات أعمدة الإنارة بالشارع.. رجلٌ قد تجاوز السبعين من عمره، قابعًا على كرسي أمام حانته واضعًا إحدى رجليه على الأخرى، يُمسك بجرنالًا قد اقتص منه جزءًا ليري المارة، بجواره منضدة صغيرة مرتفعة عليها الصينية وكوب الشاي، وأمامه الشيشة إن جاز التعبير.... كنا كلما اقتربنا إليه انغمس أكثر بالقراءة.. حتى إذا أضحينا أمامه مباشرة.. وجدتُ صوتًا يقول "هل القمر يظهر نهارًا؟!" لم أصدق ما أسمع.. من أين ذلك الصوت؟! نظرت حولي نظرات حانقة وظللت أستدير يمنةً ويسرةً لأتحقق من قائل تلك العبارة.. ولكني وجدت الرجل منغمسًا بالقراءة.. فتعجبت!
وفي اليوم التالي حدث ما حدث باليوم المنصرم.. نفس العبارة من نفس الرجل الذي تجاوز السبعة عقود من عمره.. وحينما نظرت وجدته منغمسًا بالقراءة... يا الله! في هذه المرة لم أتمالك نفسي من الضحك.. ضحكت وضحكت ضحكاتٍ مكتومة لا أعلم مصدرها الحقيقي.. وكل يوم يتكرر المشهد في نفس التوقيت وكأنه مشهد سينمائي يتم عرضه كل يومٍ بنفس الوقت... حتى أخبرت صديقاتي.. فلم تصدقن من كثرة تصنم الرجل في جلسته ولسني عمره.. ولكني أقسمت لهن أني صادقة.. قالتن سنراقب غدًا... وحينما حدث ما حدث قلت لهن أسمعتن؟!
أطلن النظر والسمع حولهن ولكن... لا شئ... إنك تمزحين حقًا هكذا ما قالتن لي...
فسرعان ما خطر على ذهني فكرة لأستعرض بها مدى صدقي.. قلت لهن واحدة منكن ستسير هي غدا في مواجهة الحانة الجالس أمامها الرجل.. سرعان ما وافق الجميع..
وفي الصباح بدأنا جميعًا نعبأ بالأمر.. وسارت صديقتنا بمحازاة الطريق حتى أتت أمام الحانة... فسرعان ما ضحكت ضحكةً ولم تتمالك نفسها فضحكن جميعًا.. فارتاح قلبي أنهن صدقن ما ذكرته لهن..لم نكن نعلم هل ضحكنا وتعجبنا من ذلك الموقف لكبر سن الرجل الذي قد تجاوز من سني عمره سني عمر جدودنا؟! أم لتصنمه على تلك الهيئة وانغماسه بالقراءة؟! أم لكوننا نظر حولنا بعد سماع عبارة "هل القمر يظهر نهارًا؟!" فنظل نبحث عن مصدر الصوت في دهشةٍ فلم نجد شئ وسرعان ما يغلق الرجل فمه؟!
الأهم أننا ضحكنا من قلوبنا... تبادلت صديقاتي واحدةً تلو الأخرى السير بجانب الحانة يوميًا لتسمع تلك العبارة الغزلية ذات الذوق البلدي الجميل.. لتضحك فنضحك لضحكها... وظللنا نتباري كل يومٍ من ستسير بجوار الحانة لتسمع من جدو تلك العبارة... ثم نضحك ضحكاتٍ لم تسمعها سوي قلوبنا الرقيقة البريئة التي لم تكتب أقلامنا المدرسية بها أي كلمة.. قلوبنا التي لم تكن تحمل همًّا ولا خبرةً ولا تعبأ بأي شئ...
وبعد مرور عقدين من الزمان كنت بالطريق.. مشيت بذاك الشارع مصادفةً...وحينما كنت في مواجهة تلك الحانة.. اقتحمت مسامعي عبارة "هل القمر يظهر نهارًا"... فضحكتُ ولكني تذكرت أني بالطريق فاستكملت ضحكاتي بقلبي... نظرت إلى اللافتة المعلقة بالحانة فوجدتها قد تغيرت وكل شئ قد تغير ولم أجد الرجل بالطبع... ولكني وجدت صدًي مبهجًا داخلي لأيامٍ كنا نشد بها طرف أي خيط كي نمرح ونسعد....
ما برحت الابتسامة تعلو وجهي حتى دلفت إلى البيت منسكبةً السعادة داخل روحي ففتحت لي الباب ابنتي التي لم تتجاوز العاشرة من سني عمرها.. نظرت إليها وهي ترتدي فستانًا أظهر جمالها.. فوجدتني أقول لها "هل القمر يظهر نهارًا؟! نظرتْ إلى محملقةً ولم تفهم شئ.. ثم قالت ماذا؟! فضحكتُ وضحكتْ ومازلنا.