أبي هريرةَ هو عبدِ الرَّحمنِ بنِ صخْرٍ الدَّوسي رضي الله عنه ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان إسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر فسميت في الإسلام عبد الرحمن وإنما كنوني بأبي هريرة لأني كنت أرعى غنما لأهلي ، وإذا أولاد هرة وحشية فجعلتها في كمي فلما رجعت عنهم سمعوا أصوات الهرة من حجري فقالوا : ما هذا يا عبد شمس ؟ فقلت : أولاد هرة وجدتها قالوا : فأنت أبو هريرة فلزمتني بعد .
وقد ولد رضي الله عنه في بادية الحجاز سنة 19 قبل الهجرة، وأمه ميمونة بنت صبيح ، وأما عن إسلامه ، فقد أسلم على يد الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي ، وكان عمره حينما أسلم حوالي ست عشرة سنة ، وشهد خيبر ، ومنذ إسلامه لم يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنوات وأصبح من أكثر الصحابة رواية لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وتفرغ للعلم ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم .
وإنَّ من يتأملُ مسارَ حياتهِ، وينظرُ في إسلامهِ وطلبهِ للعلم، يجدُ عجباً من العَجب ، يجدُ رجلاً لا كالرجالِ، جمعَ إمامةَ العلمِ، مع إمامةِ الحفظِ، مع إمامةِ الجهادِ، والصدَقةِ والصيامِ والقيامِ، و الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر ، ومع أنَّ أبا هريرةَ رضي الله عنه ، أسلمَ متأخِّراً وما صاحبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أربعَ سنواتٍ فقط إلّا أنه سبقَ فِئاماً أسلموا قبله، وذلك فضلُ اللهِ يؤتيهِ من يشاء.
وكان اسمهُ في الجاهليةِ عبدَ شمسٍ، فسماهُ النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمن وقيلَ سماهُ عبدَ الله ، واشتُهر بكنيتهِ أبو هريرة ، وذلك لأنه وجد هِرَّةً بريَّةً فأخذها وربَّاها، فاشتُهر بها، وكان النبى الكريم صلى الله عليه وسلم ، يسميهِ أبا هِرْ، ويقول له: “الذَّكرُ خيرٌ من الأنثى” . رواه الحاكم ، وأبو هريرة رضي الله عنه ، حمَل عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه لم يُلْحق في كثرتهِ، حتى بلغَ ما رواه من الأحاديثِ خمسةَ آلافٍ وثلاثَمائةٍ وأربعةً وسبعين حديثاً .
وروى عنه خلقٌ كثيرٌ من الصحابةِ، والتابعينَ وحتى بلغ عددُ أصحابه ثمانمائةٍ، كلهم يَغرِفونَ من بحرهِ، وَيَرِدُونَ حوضه ، وقد أسلم رضي الله عنه في السنة السابعة للهجرة وعمره يزيدُ عن الثلاثين بقليل، ومنذُ أسلم لازمَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في مدخله ومخرجه ومسجده، وجميع مجالسه، فلا عجب أن يكون بهذه الملازمةِ أكثرَ الصحابة روايةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد حدَّث عن نفسه فقال: “إنكم تقولون: إنَّ أبا هريرة يكثرُ الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدِّثون مثله ، وإنَّ إخواني من المهاجرين كان يَشغلُهم الصفْقُ بالأسواق، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عملُ أموالهم، وكنت امرأً مسكيناً من مساكين الصُّفة، ألزمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على مَلءِ بطني، فأحضُر حين يغيبون، وأعي حين ينسون .
ثم قال: وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألُني أصحابُك؟ قلت: أسألُك أن تعلمني مما علمك الله، فنزعَ نَمِرَةً كانت على ظهري، فبسَطها بيني وبينه، حتى كأنّي أنظرُ إلى القملِ يدُبُّ عليها، فحدثني حتى إذا استوعبتُ حديثَه، قال اجمعها فَصُرْها إليك، ففعلت فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ” رواه البخاري .
وقد دعته السيده عائشةُ أمُّ المؤمنين يوماً فقالت له: “يا أبا هريرة، ما هذه الأحاديثُ التي تبلُغنا أَنَّكَ تُحدِّثُ بها عن النبي صلى الله عليه وسلم هل سمعتَ إلا ما سمعنا؟! وهل رأيتَ إلا ما رأينا؟“، فقال: “يا أمَّاهُ، إنه كان يشغلُك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المرآةُ والمِكْحَلة والتصنُّع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني والله ما كان يشغلني عنه شيء” رواه الحاكم .
ويقال أن رجلاً جاء إلى طلحةَ بنِ عبيدِ الله، فقال: يا أبا محمد، أرأيتَ هذا اليماني ، يعني أبا هريرة ، أهوَ أعلمُ بحديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منكم؟! نسمعُ منه أشياءَ لا نسمعُها منكم، أم هو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقُل؟ فقال طلحةُ: “أمَّا أن يكون سمع مالم نسمع فلا أشكُّ، سأحدِّثك عن ذلك: إنا كنا أهلَ بيوتاتٍ وغَنَمٍ وعمل، كنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، وكان مِسكيناً، ضَيفاً على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يدُه مع يدِه، فلا نشكُّ أنه سمع ما لم نسمع، ولا تجدُ أحداً فيه خيرٌ يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل “.
ولم يبلغ أبو هريرة رضي الله عنه هذه الرُّتبةَ العظيمةَ من الرواية والدِّراية إلَّا بالتَّعبِ والجوعِ والنصَبِ، وصَدَقَ القائلُ: لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حتَّى تلْعَقَ الصَّبِرَ ، ولقد حدَّثَ رضي الله عنه عن شيءٍ من الشدَّةِ التي لَقِيَها في ذلك، فقال: خرجتُ يوماً من بيتي إلى المسجد، فوجدت نفراً فقالوا: ما أخرجكَ؟ قلت الجوعُ، فقالوا: ونحنُ واللهِ ما أخرجَنا إلَّا الجوعُ، فمضينا فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال: “ما جاءَ بكُم هذهِ الساعةِ؟ فأخبرناهُ، فدعا بطبقٍ فيه تمرٌ، فأعطى كلَّ رجلٍ منا تمرتين، فقال: “كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما من الماء، فإنهما ستجزيانِكم يومَكم هذا“، قال: فأكلتُ تمرةً وخبَّأتُ الأخرى، فقال: يا أبا هريرة لمَ رفعتَها؟ قلت لأمِّي، قال: “كُلْها فسنُعطيكَ لها تمرتين” رواه البيهقي .
وكان أبو هريرة ذا لسانٍ سَؤولٍ وقلبٍ عَقولٍ ، أما لسانهُ السَّؤول ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله من أسعدُ الناس بشفاعتِك؟ قال: “لقد ظننت يا أبا هريرة ألَّا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّلَ منك ، لِما رأيت من حرصك على الحديث ، إنَّ أسعدَ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلَّا الله خالصاً من نفسه“ رواه البخارى .
وأما قلبُهُ العَقول فيدل عليه سعةُ حفظه وفهمه وإدراكه، فقد كاتب مروان أمير المدينة قال: “ أرسل مروان إلى أبي هريرة فجعل يسأله وجعلني خلف السرير، وأنا أكتب، حتى إذا كان رأسُ الحَول (أي بعد سنة) دعا به فأقعدَهُ من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدَّم ولا أخَّر“.
وأبو هريرة رضي الله عنه ، ذلك الاسم الذي اقترن اسمه باسم رسول ربّ العالمين، لِما له من كثرة الرواية وعلو الكعب في الحفظ والإتقان على الصحابة أجمعين ، فلم يخل ديوان من دواوين الإسلام إلاّ واسمه فيه منقوش مرسوم، ولم يمض مجلس من مجالس الذكر والعلم إلاّ وكان لذكره نصيب معلوم، فدعوات المؤمنين له في كل عصر متوالية بالرضا والثناء والرحمات الغاليّة، لم يسمع به أحد إلاّ أحبّه قبل أن يراه .
وما جلس إليه أحد فملّ حديثه ولقياه، جالسه أبو صالح السمّان من تابعي الكوفة الصالحين عشرين سنة ، فما ملّ مجالسته بل تمنّى عند موته أن يحظى بجلسة معه، فقال: "ما كنت أتمنى من الدنيا إلاّ ثوبين أجالس فيهما أبا هريرة" ومن المفارقات العجيبة أنّه بقدر ما شُدَّت قلوب المؤمنين إلى محبة هذا الصحابي الجليل بقدر ما اشتد عداء الكفار والمنافقين وأفراخهم من المستشرقين والمستغربين لهذا الرجل الأصيل .
فراحوا يُشوِّهون صورته المشرقة بأثافي الأساطير والأكاذيب، ويصفونه بالغفلة والبله والميل إلى المزاح والألاعيب، بل نسبوا إليه الكذب فيما روى من أحاديث الصادق الأمين، وهالهم ما حفظه من ذلك في قلة السنين، لكن أهل الإيمان لا ترجفهم أقاويل المفترين ، ولا تصرفهم عن محبّة أبي هريرة تُرهات الممترين، لأنّهم بفضله ومناقبه عارفون عالمون، وبشرف الدفاع عنه مكافحون منافحون.
والناظر بعين الإنصاف في سيرة هذا المؤمن المحبوب، يجدها سيرة قد حازت من الفضائل كلّ مرقوب ومطلوب، فقد كان في الجاهلية يسمى بعبد شمس كما ترجم له البخاري في تاريخه، ولما جاء الإسلام غيَّر اسمه، لأنّه لا يجوز تسمية إنسان بأنّه عبد فلان أو عبد شيءٍ من الأشياء، وإنّما هو عبد الله فقط، فسمّي بعبد الرحمن، وقيل: عبد الله، والمشهور الأول، ورجّح ابن حجر احتمال صحة الاسمين.
وقد نشأ أبى هريره رضي الله عنه يتيمًا وهاجر مسكينًا كما يقول عن نفسه، وتأخر قدومه إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأسلم سنة سبع في غزوة خيبر، لم يشهد بدرًا ولا أحدًا ولا غزوة الأحزاب، ومات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة للهجرة، فكانت مدة صحبته للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما بين ثلاث سنين وأربعه ، ولا تناقض لأن السنين الثلاث المذكورة عند البخاري فُسِّرت بالملازمة اللصيقة والحرص الشديد على الصحبة وتلقي الحديث.
وهؤلاء هم أهل الصفة، والصفة موضع مظلل في شمال المسجد النبوي يأوي إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لا منزل له وأكثرهم من المهاجرين الفقراء وكان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يطعمهم ويتفقد أحوالهم ، وفضلهم مشهور لا ينكر، وكان أبو هريرة منهم قد حاز شرف فقرهم وفضلهم وأجرهم، وهكذا نرى أن الفضل قد تتابع لأبي هريرة لصحبته، ولهجرته، ولدوسيته، ويمانيته، ونيله دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وتوثيقه له، وشهادة القرآن له.
وبعد وفاة النبي محمد، شارك أبو هريرة في عهد أبي بكر الصديق في حروب الردة، كما شارك في الفتح الإسلامي لفارس في عهد عمر بن الخطاب، ثم استعمله عمر واليًا على البحرين، فقدم من ولايته عليها إلى المدينة بعشرة آلاف، فاتهمه عمر في تلك الأموال، فأنكر أبو هريرة اغتصابه لتلك الأموال، وقال له بأنها نتاج خيله، ومن تجارته في الغلال، وما تجمّع له من أُعطيات.
فتقصّى عُمر الأمر، فتبيّن له صدق مقولة أبي هريرة ، وأراد عُمر بعدئذ أنه يُعيد أبي هريرة إلى ولايته على البحرين، فأبى أبو هريرة، وامتنع ، بعد ولايته تلك، أقام أبو هريرة في المدينة المنورة يُحدّث طلاب الحديث، ويُفتي الناس في أمور دينهم
وقد قيل أن أبا هريرة هو من صلى على السيده عائشة رضى الله عنها في رمضان سنة 58 هـ، وعلى أم سلمة في شوال سنة 59 هـ، ثم توفي بعد ذلك في نفس السنة ، وكانت وفاة أبي هريرة في وادي العقيق، وحمل بعدها إلى المدينة، حيث صلى عليه الوليد بن عتبة أمير المدينة المنورة وقتئذ بعد صلاة العصر، وشيعه عبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري، ودُفن بالبقيع.
وقد أوصى أبو هريرة حين حضره الموت، فقال: إذا مت فلا تنوحوا عليّ، لا تضربوا عليّ فسطاطا، ولا تتبعوني بمجمرة، وأسرعوا بي ، كما كانت له قبل وفاته دارًا في ذي الحليفة، تصدق بها على مواليه، وقد كتب الوليد بن عتبه إلى الخليفة معاوية بن أبي سفيان يُنبأه بموت أبي هريرة، فكتب معاوية إليه يأمره بأن يحصي ورثة أبي هريرة، وأن يمنحهم عشرة آلاف درهم، وأن يُحسن جوارهم .