من النعم العظيمة التي يغفل عنها الغافلون: نعمة الصحة والفراغ، يجهلون قدرها، ولا يؤدون شكرها، وهي فرص الأوقات التي تخلو من المشاغل والمعوقات المانعة من العمل للدين والدنيا والآخرة كما في حديث النبى الكريم صلى الله عليه وسلم " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ " رواه البخاري .
وإن كان العمر طويلاً فازدد من الطاعة والقربة والإحسان ، واستغله بطاعة الله الرحيم الرحمن ، فهذا الإمام الشافعي رحمه الله عاش قرابة خمسين عامًا، ولم يزد عليها، ولكن اسمه على كل لسان، فقد ملأ علمه الأفاق، وترك أثراً لا يمحى، وكم من معمر عاش أكثر من مائة عام ، ولا يعرف بين الناس له ذكر، لأنه ليس له عمل صالح ، فالكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها.
واعلم بأنه يطول عمرك وأنت حي، بكثرة العمل الصالح، ويطول عمرك وأنت ميت، بالصدقات الجارية والعلم النافع ودعاء الولد الصالح ، ففي صحيح مسلم ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " واعلم أنه جاء جبريل عليه السلام إلى النبي الكريم صلى الله عليه و سلم فقال : ( يا محمد عش ما شئت فإنك ميت و احبب من أحببت فإنك مفارقه و اعمل ما شئت فإنك مجزي به ) .
فما أحوج الإنسان إلى التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض، وما بث الله فيها من آيات ربوبيته ووحدانيته وبديع صنعه، وهو الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا ، ومن عجائب الخلق، وبديع صنعه ، هذا الزمن الذي تنطق به حركات الكون كله في دوران الأجرام السماوية في أفلاكها، وفي تعاقب الليل والنهار، وتتابع الفصول، بل حتى في دقات قلب الإنسان كعداد ينطق بقيمة الوقت، ويحصي لحظات عمره بطريقة العد العكسي .
إن المسلم العاقل العامل يغتنم فرصة، ويتحرك بجد وحزم وعزم لملء أوقات عمره بالطاعات، والقربات، وفعل الخيرات، ويسارع إلى مغفرة من ربة وجنات النعيم، كما هو مأمور في كتاب الله، وسنة رسوله، وهذا تحضيض من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل حلول الموانع، والمعوقات، والفتن فقال صلى الله عليه وسلم : " بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْظِرُونَ إِلَّا إِلَى فَقْرٍ مُنْسٍ، أَوْ غِنًى مُطْغٍ، أَوْ مَرَضٍ مُفْسِدٍ، أَوْ هَرَمٍ مُفْنِدٍ، أَوْ مَوْتٍ مُجْهِزٍ، أَوِ الدَّجَّالِ، فَشَرُّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةِ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ " رواه الترمذى .
إنَّ الحياةَ دقائقٌ وثوانِ وإن الوقت من نعم الله العظيمة، يتكرم فيه المولى سبحانه على العباد بفرص العمر الغالية، لعلهم يغتنمون الحياة الدنيا الفانية من أجل الفوز بنعيم الحياة الأخروية الباقية، فالعمر أوقات، أيام، وشهور، وسنوات، والوقت أثمن من الذهب والمال، لأن المال قد يعوض أو يستعاد، لكن الوقت من حيث يمضي لا يعود، إنه وعاء العمر والحياة، من اغتنمه فقد اغتنم عمره وحياته، ومن أضاعه خسر الدنيا والآخرة .
وفي غفلة من الناس، وهم بالآمال متعلقون، وعلى حين غرة ، يأتيهم الأجل المحتوم، وحينها يتنبهون من غفلتهم، ليدركوا قيمة أوقات الأعمار الضائعة، ويستجدون الفرص الإضافية لعلهم يتداركون، وتزداد الحسرة والندامة يوم القيامة، وقد أزلفت الجنة للمتقين، وبرزت الجحيم للغاوين، هنالك يدعو المضيعون لأوقات أعمارهم الدنيوية بالويل والثبور، وهم في النار يصطرخون ، أما أهل الجنة فليسوا يتأسفون، وهم في النعيم المقيم، إلا على ساعة من الدنيا لم يكونوا لله تعالى فيها من الذاكرين.
والعمر مهما امتد وطال ليس إلا لحظات زمنية عابرة، ولكنها فرص ثمينة، قد أفلح من اغتنمها وهو حازم عاقل، وقد خاب من أضاعها وهو واهم غافل، وإن الوقت في حياة المسلم أغلى وأثمن، لِما يعلم من قيمته في دينه ودنياه، وقد اهتم به الإسلام، وأولاه عناية كبيرة، حسبكم أن الله تعالى أقسم في كثير من الآيات بظواهره المختلفة تنبيهًا إلى عظيم شأنه ، بل ربط الإسلام كثيرًا من العبادات والقربات بأوقات زمنية مخصوصة في الصلاة والزكاة، والصوم والحج، والنوافل والأذكار وغيرها.
والإنسان مطلق الإنسان حريص على الحياة الدنيا ، وحريص أن يطول عمره ، ولو استطاع أن يخلد في الدنيا لفعل ، ولكن الله سبحانه وتعالى قهر العباد بالموت والفناء، فحرص الإنسان على طول حياته في هذه الحياة الدنيا بدون أن يتنبه إلى ما يكتسبه في هذه الحياة ، قد يكون عليه طامة كبرى ، لأن الإنسان إذا طال عمره ،وساء عمله ، فإن طول العمر بالنسبة لهذا الإنسان نقمة ، وليس بنعمة ، فعمرك إنما هو وعاء لأعمالك ، فلا تكن حريصاً على الوعاء ، بدون حرص على ما يحتويه هذا الوعاء ، لأن قيمة الوعاء بما يحتويه, ،وقيمة عمرك بما تجنيه ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.
ودعاء المؤمن بطول العمر في الدنيا ، ليس المقصود منه طول المكث فيها فقط ، فقد يكون وقتك وعمرك قصيراً ، ولكن الخير فيه كثير وكثير جداً ، فهذا هو سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، في فترة وجيزة من عمره لا تتجاوز السنتين ونصف هي فترة ولايته، ملأ فيها الأرض عدلاً ، بعدما ملئت جوراً وظلماً.
والمسلم يعلم أنه لن يدرك الجنة إلا بحسن استثمار فرص العمر بكل أوقاته وأحواله فيما يرضي ربه، لأنه عن كل ذلك سوف يسأل، كذلك يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ " رواه الترمذي .
وإنه من السفه والغفلة إتلاف الوقت وتبديده، فذلك أشد وأوخم من إتلاف المال وتبذيره، فكل وقت ضائع هو خسارة لجانب من مطالب الدين والدنيا والآخرة ، ومن المؤسف المؤلم أن تجد المسلم اليوم أكثر إهمالًا وتبذيرًا وتبديدًا لأوقات عمره الثمينة، وهو على علم ويقين بما ينتظره ليوم القيامة، تلك حال كثير من المسلمين الذين يبيدون الساعات الطوال في المقاهي والملاهي، وألوان الفرجة في الأفلام والمباريات والسهرات، وحول موائد اللعب والقمار وغيرها.
لاهين عن ذكر الله، وعن الصلاة، متقاعسين عن صالح الأعمال للدنيا والآخرة، وإذا كان لا مانع من قسط الترفيه والترويح بالضرورة فهو في غير إفراط ولا تفريط ، ولكن المسلم العاقل الحازم الذي يتوق إلى رضا الله ورضوانه ، ويعلم أن طريق ذلك جد وعمل، واجتهاد ومثابرة، واغتنام الأوقات بما يرضي الله تعالى من الصالحات، وفعل الخيرات، فيبادر ويسارع قبل انصرام العمر، وحلول الأجل.
وإن طول العمر ، مع حسن العمل ، لمن علامات سعادة الإنسان ، فالمؤمن لا يزيده طول العمر إلا خيرا، فهو يتوب من الزلات والخطايا، ويتزود من الصالحات والحسنات، ويكون المؤمن أكثر عقلاً وفقهاً وأكثر إدراكاً، فلا تزيد الأيام العبد المؤمن الصالح إلا خيراً بإذن الله عز وجل ، فالأعوام والشهور والأيام والساعات تمضي وتنقضي ، وهي رأس مال الإنسان في هذه الحياة الفانية، فالسعيد من اغتنمها في الطاعات ، وشغلها في إرضاء رب الأرض والسموات ، والشقي من ضيَّعها في المنكرات ، وأهدرها في المعاصي والمحرمات.
وإذا كان خير الناس من طال عمره وحسن عمله ، فإنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائماً أن يجعله ممن طال عمره في طاعة ، وذلك من أجل أن يكون من خير الناس ، فيا من أطال الله عمره وأمدّ بقاءه فجاوزت الشهور والسنين ولا تدري متى الرحيل، فإن كنت ممن وُّفقت للخيرات ، فاشكر الله على الفضل الكبير ، واحمده على الخير الكثير ، وسله سبحانه الإخلاص والثبات حتى الممات، وإن كنت من أهل التقصير والتفريط، وضاع وقتك فيما لا ينفع، فبادر بالتوبة قبل فوات الأوان ، فأبوابها ولله الحمد مفتوحة للتائبين، واغتنم ما بقي من حياتك في طاعة ربك وإرضاء خالقك، واعلم أن الذين أضاعوا أعمارهم في غير طاعة، وأفنوا حياتهم بغير توحيد، ولا إيمان، فهؤلاء باؤوا بالخسران المبين .
وإن المشكلة تكمن في عدم معرفة قيمة الوقت، والوقت سريع التقضي، أبي التأتي، لا يرجع مطلقاً، والعاقل هو الذي يفعل ما يغتنم به وقته، قال بعض أهل العلم: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ثم ليس فقط انتهاز العمر بالطاعات، واغتنام الأوقات بالعبادات، وإنما يقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، وهذه مسألة تحتاج إلى فقه، اغتنام الوقت في أفضل ما يمكن تحتاج إلى فقه ، لأن المسألة، مسألة التفاضل بين الأعمال لا يمكن التوصل إليها إلا من خلال الأدلة الشرعية، ولذلك فلا بد أن يكون للمسلم علم بالأعمال التي نص الشارع على فضلها، وأنها أفضل من غيرها .