قريتي طنان التي في خاطري وفي ملامحي أحملها في قلبي أينما حللت ونزلت شوارعها، حاراتها، أزقتها، جامعها الكبير العتيق والروايات والأساطير التي مازالت تُنسج حوله، حجر الجامع الكبير الفرعوني في الباب البحري المنقوش عليه كتابات هيروغليفية... تقول الأسطورة التي توارثناها كابراً عن كابر من يقرأ هذا النقش يُفتح له الكنز قرأناه عشرات المرات ولم يفتح لنا الكنز! مما لاشك فيه أن أسفل الجامع مدينة فرعونية ستغير مجري التاريخ
فبعض الروايات تقول إنها كانت مقرًا لمبعد قديم وكان اسمها في ذلك الوقت (تيمنت) ثم حرفت إلي (تنور )فالجامع الكبير الموجود بالقرية به أعمدة من الجرانيت والرخام الخالص لا نعرف أصله ومن وضعه!!!
جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي عن (تنور) طنان "كان لها شأن كبير في العصور القديمة ومن أعيان قرى مصر قريبة من الفسطاط ذات بساتين"
مما يدل علي ماكان بها من نهضة زراعية وتميزها وتفردها بين قري مصر حتي عدها ياقوت الحموي من أعيان قري مصر.
وفي يوم الزينة عندما كان يجمع فرعون موسي أمهر سحرة مصر ليجابهوا سحر موسي اختار من طنان ساحراً ليشارك في هذا التحدي العظيم الذي بالطبع حسمه سيدنا موسي لصالحه وسجله سبحانه وتعالي في كتابه العزيز قال تعالي: قال "موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحي" وقال أيضاً "فألقي السحرة سجداً قالوا ءامنا برب هارون وموسي" (ص) هذا الجامع له خصوصية في نفوس أهالي طنان فعندما تدخله تشعر بالسكينة والهدوء والطمأنينة، روحانيات قلما تجدها في مكان أخر.
هذه المنطقة منطقة الجامع الكبير، السوق، المخزن، سوق العراقي، ميدان الباخوري لب طنان القديمة العتيقة ،كنا نلهو ونلعب فوق أطلال مدينة وآثار ومراقد الأجداد كنا نشم رائحة المقابر والمومياوات فنتنفس بعمق لتصيبنا رياح الطمأنينة والفخر والزهو بعظمة هؤلاء الأجداد.
كنت أتساءل أين بيت هذا الساحر في أي ناحية كان يسكن في تنور القديمة (طنان)؟ وبعدما أمن برب موسي هل عاد (لتنور ) أم حل به عقاب فرعون موسي؟ وإذا كان قد عاد وأخبر أهله وأهالي تنور (طنان) بإيمانه بسيدنا موسي كيف استقبلوه؟ وماذا كان رد فعلهم هل صدقوه وأمنوا مثله برب موسي أم كان لهم رد فعل آخر؟ وماذا كان انطباع هذا الساحر الطناني عن سيدنا موسي عندما التقاه وبعد نهاية اللقاء؟
وهل تخلي عن مهنة السحر بعد ذلك؟ وهل هذا الساحر كان أحد كهنة المعبد (التنوري )فكما قرأنا وأشرنا سالفاً أن مكان الجامع الكبير بطنان كان معبداً فرعونياً فهل كان هذا المكان محل إقامته؟ أظن ذلك. وهل دون شيئاً عن هذه الظاهرة ربما فغالباً مادام من كهنة المعبد فقد وصل إلي مرتبة عالية في العلم فالكهنة لم يكونوا رجال دين فقط بل علماء أيضاً؟ وأي العائلات الحالية في( طنان )يصل نسبها إلي هذا الساحر المؤمن؟
بالتأكيد كانت أخبار موسي قد انتشرت في كل ربوع مصر القديمة ومنها تنور فهل كانت تنور (طنان) من مؤيدي موسي أم كانت علي دين الفرعون؟ وبعد يوم الزينة هذا التحدي الأعظم في تاريخ مصر القديمة بل في تاريخ البشرية قاطبة كيف كانت الأجواء في تنور (طنان)؟ وهل وصلتهم أخبار حادثة انشقاق البحر لسيدنا موسي ونباء اليهود ونجاتهم وغرق حاكمهم في مياه البحر الأحمر؟
كيف كانت الأجواء في تنور (طنان) آنذاك وددت لو وصلت لإجابات شافية عن هذا التاريخ الذي كانت قريتي تشارك في أحداثه وفي كتابته. أما أغرب ماوصلني وتوقفت أمامه كثيراً عن بعض الأهالي الذين كانوا يقومون بالحفر خلسة بحثاً عن الآثار بجوار الجامع الكبير وشاهدوا عجلات حربيةفرعونية وأوعية فيها مايشبه الرماد( تبر )!!!
فهل كانت هذه العجلات لحماية المعبد الفرعوني؟ أم أن دورها كان أكبر من ذلك؟ مما يجرنا لسؤال آخر هل كان لتنور (طنان) دور حربي في مصر القديمة؟ لعل تنور كانت مثلاً استراحة لأحد الملوك أو الأمراء أو أحد الشخصيات الهامة وخاصة أنها كانت ذا شأن كبير في العصور القديمة ومن أعيان قرى مصر وقريبة من الفسطاط ذات بساتين كما ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان.
فهل كانت مصيفاً أو مشتيً للملوك والأمراء أو لصفوة وأعيان مصر القديمة؟ تفسير هذه الألغاز يرقد في جوف طنان القديمة لعل وعسي أن يأتي يوم وتُخرج لنا أرضها ماأخفته عنا من كنوز وأسرار من الآلاف السنين باكتشاف أثري ضخم يبوح بأسرار (تنور) القديمة صانعة التاريخ. مازال منزلناً القديم بشارع القصبة بالقرب من الجامع الكبير صامداً أمام عوامل الزمن والتعرية يقاوم الأبنية الحديثة التي طاولت بناءه القديم وأساساته التي ينطق كل حجر فيها بتاريخ الأجداد وأنفاسهم،
مازلت أحن إليه، لذكرياتي فيه، لرائحة الأصالة والعراقة، لأهل شارع القصبة الودودين. هذا الشارع الذي مازال شاهداً صامتاً علي شقاوتنا كان يستغيث منا كمن يستغيث من الرمضاء بالنار فقد كنا لانهدأ ولانتوقف عن اللعب لحظة واحدة ،فقد أرهقنا جيراننا كثيراً لكنهم تحملونا كانت أوقات راحة الجيران والشارع عموماً عندما نخلد للنوم أو نذهب إلي مركز شباب طنان الذي كان بالنسبة لي هو العالم السحري فقد كان بمثابة احتكاك مبكر كنا نتصارع فيه مع من هم أكبر منا سناً علي الكرة وعلي الملعب!!!ولابد أن تكون صلداً وإلا ستكسر ،فزادتني هذه الأيام قوة وصلابة ونضجاً.
في طفولتنا كانت تنور (طنان ) تزداد جمالاً وتزدان بالأضواء والزينة والحركة والنشاط والازدحام في ليالي رمضان من ميدان العراقي إلي ميدان الباخوري وكأنك تجلس في حواري القاهرة القديمة فطنان كالقاهرة صورة طبق الأصل( روحها في رمضان)
لم تعد قريتي طنان كما كانت القرية البكر، البسيطة، الهادئة فقد اخترقتها المادة، والحداثة، والمعارض، والموبيليا، لم أعد أحفظ شوارعها عن ظهر قلب كما كنت في الماضي اتسعت بشكل مخيف لدرجة لم أتخيل أن مثلي (يتوه) فيها
اخترقت البنايات المسلحة الأراضي الزراعية وصارت كالمتاريس التي أكلت الرقعة الزراعية وشوهت اللون الأخضر الذي كان يميز طنان. الطنانيون أنفسهم أصبحوا كترس في آلة لاتهدأ ولاتتوقف بحثاً عن المادة.
الصحبة ولمة الأصدقاء أصبحت من مخلفات الماضي أفتش عنهما في دفتر ذكرياتي القديمة من وقت لأخر حتي أتأكد أنها مازالت تسكنني ولم تراوح عقلي الباطن فهي وقودي لما هو آتٍ وأول ماأطمئن عليه هو ذكري حبي الأول وبراءة ونقاء إحساسه فمازال حنينه في قلبي لم يبارحني قيد أنملة كطنان العروس في ليلة زفافها ترتدي أبهي زينة وأجمل حلة ،علي رأسها تاج فرعوني يؤكد علي أصالتها وعراقتها وماضيها وتاريخها التليد أما فستانها فزي إسلامي نقي أبيض كنقاء الثلج بلون الفطرة ولون القلوب البيضاء لأهلها...