قد اخفت معالم السياسة الجزء الاكبر من التاريخ حول العلماء الراسخين ، وبما انا قلنا في العنوان مسألة ، فلا نجعل المتن نقيض العنوان ، ونذهب بطرق الصراع الاجتماعي وبما أثر من ارهاصاته السياسية على كاهل القلم المنكسر في طياته المتعبة باوراق المؤرخين ، لان محمد بن علي ع تاريخ بحد ذاته على الرغم من عمره القصير ، وهو اقصر عمر يعيشه الائمة الاثنى عشر ، ٢٥ عاما ،تاركا بعد رحيله ولدان وبنتان في اتفاق الروايات ، واكثر من ذلك فيما اختلف .
من اهم المشاكل التي اعترضت الامام عمره وهي المسألة على طول باعها وعمقها وصعوبتها في البحث ، الا ان المؤرخين اجمعوا عليه باتفاق اتباعه ومخالفيه ، حتى ان اكثر الصحابة ايمانا ، راوده السؤال ، وقد عم هذا العمق لعمره خطوط عريضة ، الجمت بعض الفقهاء ، وادهشت بعضهم ، بينما اقر بعض الفقهاء بعلميته وامامته مع صغره ، على ان البلوغ في الفقه كان حجر عثرة لديهم ازاحها محمد الجواد ع في مناظراته التي لم يستطع التاريخ ان يغلقها على محاولاته الكثيرة التي ارادت ان تقطع وتخفي سيرته .
لعل الامام محمد الجواد ع تلقى اسئلة اكثر من باقي الائمة ، ليس بمضمون المعرفة ، بل الكشف عنه ، فقد توجهت له الاسئلة الاؤلى من فقهاء الشيعة الذين اجتمعوا في دار الامام جعفر الصادق ع ، وهو بعمر ٩ سنوات اي مايقارب عمر تلميذ في الصف الثالث الابتدائي حاليا ، وقد سجلها الفقهاء وكانت اجوبته قطعية غير قابلة للشك ، ومنها اطيع في امره بعد استشهاد ابيه علي الرضا ع ، وكان العمر التمحيص الاول لاتباعه ، وغربلتهم ، فذهب منهم ، من كان لايؤمن بطريقه وطريق ابائه الى الواقفية ، بينما ظل الفقهاء والمؤمنون ملازمين له ، تابعين ، ولم تكن الاسئلة التي تثير بسبب العمر بين موالي له ومخالف تنقطع حتى تصبح في اعلى وتيرتها ، في ان الخليفة العباسي المأمون على الرغم من مخالفته للطالبيين ، فانه انبهر بعمر محمد الجواد ع وبأجوبته وبرسوخه بالعلم ، هذا الانبهار ادى الى عقد نية المأمون ان يزوجه ابنته ( ام الفضل ) مما اثار حفيظة العباسيين ، ورأوا في هذا الزواج خروج السلطان منهم وذهاب العز فاجتمع - فيما ذكره التاريخ – بثلاثين الفا من سببٍ ونسبٍ في طلب من المأمون ان يلغي تلك النية وذلك العمل المزمع في تنفيذه ، القوا جميع الحجج على المأمون ، والقى المأمون جميع حججه ، لكن لم يؤمن احدهما بحجة الاخر ، حتى جاء العمر مرّة أخرى يلقى ظلاله على الامام محمد الجواد ويسبغ عليه بالاسئلة ، فكان عمره في مااتفق عليه احدى عشر (١١) سنة وقيل اصغر من ذلك في ما اختلف فيه من الروايات ، فكيف يزوج ابنته لشخص غير بالغ لم يعرف بعد فقه دينه من حلاله وحرامه !؟
وهنا بدأت مسألة فائدة العمر تلقي ظلالها على الامامة بقوة وعنف الحجة ، فكان المأمون مع ايمانه المطلق بعلي الرضا ع وبمناظرته وبامامته ، جعل هذا الايمان ينتقل الى ولده محمد الجواد ع ، فراهن وهو يتخذ الطمأنية فراشا ، والقى بالقلق على أبناء عمومته ، وهذا القلق سرى بهم على كثرتهم فان الامامة كانت اكثر ما يخافونه من الزواج ، ومعرفة الناس بالامامة كان خاطرهم الأكبر ، فكان موافقتهم للمناظرة خطرا ، لذا اختاروا قاضي القضاة يحيى بن اكثم وكان فقيه الدولة وهرمها ، واغروه في مايذكره لنا التاريخ بالمال ، عندما علم ان المناظرة مع حفيد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، رفض ، الا ان ماقدموه له جعله في النهاية يرضخ لهم ، ان كان مالا ام جبرا ! واتفقوا على ان يطرح عليه سؤالاً يصعب اجابته على عمر ١١ سنة (أي بعمر تلميذ في زماننا بالصف الخامس ابتدائي) ، فماذا يسأله كي يحيّر عقله ، الا بمسألة عملية في تطبيقها النظري ، ولاتستخدم في العبادات اليومية الا بعد سنة وهي دائمة تكون صعبة لان الممارسة فيها غير مستمرة فاختار ان يسأله : عن الصيد في الحرم !
كان الرد مبهرا ومقلقا في نفس الوقت ، لانه تشعب لعدة أسئلة لم يستطع ابن الاكثم ان يجيب عنها ، وظل حائرا ساكتا ، فانتظره المأمون ان يجيب فلم يستطع ابن الاكثم الإجابة ، فأذن المأمون وهو مبتسما منتصرا للامام محمد الجواد ع ان يجيب لتلك الأسئلة التي تشعبت فأجاب وكاتب المأمون يقيد اجابته ، بينما ظهر الخجل والفشل على العباسين باديا وظهر الانبهار والتلمذة على ابن الاكثم ، وحين فراغ محمد الجواد ع من الجواب ، طلب من المأمون ان يسأل ابن الاكثم .
فسأله : ماتقول في رجل حرمت عليه امرأة بالغداة ، وحلت له ارتفاع النهار ، وحرمت عليه نصف النهار ، ثم حلت له الظهر ، ثم حرمت عليه العصر ، ثم حلت له المغرب ، ثم حرمت عليه نصف الليل ، ثم حلت له الفجر ، ثم حرمت عليه ارتفاع النهار ، ثم حلت له نصف النهار ؟
هنا انتهت المناظرة بيحيى بن الاكثم بالفشل بعد اعترافه انه لايعرف الجواب ، فكان (العمر) الذي كان امل العباسين وابن الاكثم، هزيمة نكراء ، وإقرار لمن يملك العقل :انها ذرية بعضها من بعض ، فكان العمر دليلا على الامامة ، واثرا علميا عليها !؟
لم تكن مسألته تنتهي بعد، فظل المخالفين والمتربصين يتحينون الفرص ، وظل هاجس العمر هو الدافع اليهم ،فكانت الأسئلة تطرح ، في احلك الظروف ، حتى أُدخلت في السياسة فيما بعد حتى يوقعونه في مذهب المأمون ، الا انهم يفشلون ، فطرحت عليه أسئلة كثيرة من يحيى في كل دعوة فيما بعد في مجلس المأمون ، كان يحيى بن اكثم يثير فيها حول الطائفة والمذاهب فيما يخص الروايات ، فكان يسأل عن الروايات ومدى تصديق محمد الجوادع فيها فيما تخص الشيخين رض !وكلما يسأل يسجل التاريخ ذلك ، بالاجوبة القاطعة التي لاتخدش امامته او طريقه الواضح ، وتفند بعض الروايات باسس علمية ومن القرآن الكريم .
في هذا العمر القصير كان الامام يجيب ويستفتون منه المسائل الشرعية ، حتى سأل سؤال من اتباعه عن المأمون وتحرزهم إياه بانه سيقتله كما قتل اباه ، فأجابهم بوضوح ان المأمون في مأمن منه ،وكلما اقترب منه المأمون زاد حقد العباسين الذين ترأسهم ولي العهد المعتصم ، ومات المأمون ، وزاد حقد المعتصم على محمد الجواد ع ، وكذلك ابنة المأمون التي لم تستطع الموافقة بين السلطان وحبها له ، والايمان ومعرفة زوجها ، فاختارت الترف ، على ما يفعله الجواد من شظف ، وزهد ، وتقوى ، فتأمرت عليه مع المعتصم – فيما يذكره التاريخ – ليغلق اخر صفحاته وهو بعمر ٢٥ عاما ، بسم تدسه له زوجته ، في أواخر أيام ذي القعدة من عام ٢٢٠هـ ، بعدما سجل التاريخ ان جميع فقهاء عصره هزموا بمناظرته ، وبعدما عجزوا عن الحجة ، وضاعت بهم السبل ، لم يبقى الا سبيل القتل ، ليلتحق بآبائه ، شهيدا ، شاهدا ، على امة لاتعرف الا قتل الصالحين ،ليفتح التاريخ جدلية أخرى : هل مات مسموماً ؟
كما يفتح لنا التاريخ قراءات أخرى عن الامام الجواد ؟ ويظل عمره كعمر جده علي بن ابي طالب ع وهو يؤمن فتيا ، ويجيب فتيا ، بينما لم يستقبل الرسول صلى الله عليه واله وسلم ، أي داخل الى الإسلام بعمر علي ع ، حتى يبلغ ! فما كان غريبا للمؤمنين !؟ فكانت المعجزة تعود ، والقراءات تتكرر بوجه اخر لمسألة أخرى في ذكرى رحيل الامام محمدالجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفرالصادق بن محمدالباقر بن علي السجاد بن الحسين الشهيد بن علي بن ابي طالب صالحا بعد صالح .
بعض أقواله :
ـ كفى بالمؤمن خيانة ان يكون أمينا للخونة
ـ من لم يرض من أخيه بحسن النية ، لم يرض منه بالعطية
ـ من أطاع هواه أعطى عدوه مناه
ـ التقوى عز ، والعلم كنز ، والصمت نور
ـ عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه
ـ العامل بالظلم والمعين عليه ، والراضي به شركاء.
ومن اجوبته :
ـ قال عمر بن فرج الرخجي : قلت لأبي جعفر : ان شيعتك تدعي أنك تعلم كل ماءٍ في دجلة ووزنه ، وكنا على شاطيء دجلة
فقال : يقدر الله أن يفوض علم ذلك الى بعوضة من خلقه ام لا ؟
قلتُ : نعم .
فقال عليه السلام : انا اكرم على الله من بعوضة ومن اكثر خلقه .