أننا نمتلك أشياء كثيرة، لكننا لا ندرك قيمتها إلا عندما نتركها أو نبتعد عنها أو يوجهنا إليها أحد أو توقدها الأيام فينا. الغربة علمتني... أن أكتم ألمي بداخلي وإن كانت ملامحي ستعريني أمام الجميع؛ لأن جميع آلامي ستفسر غالبا بصورة مقلوبة عن الحقيقة وكل سيجتهد في تحليلها حسب هواه؛ لأنني بعيد عن بلدي. الغربة علمتني... من أنا وكيف يمكنني أن أنتصر على نفسي وعلى التخاذل وعلى التشاؤم في كثير من المعارك على أمل أن الوضع الراهن لن يدوم وأنني سأعود إلى بلادي يوما ما. الغربة علمتني... أن معادن الناس تنصهر في الغربة وتستطيع عندها التمييز والمفاضلة بين الأصيل منها من المقلد ويستطيع كل ذي لب التمييز بسهولة بين الغث والسمين.
الغربة علمتني... أن الموت مئات المرات فوق ذرات تراب بلادي أهون من العيش غريبا في أي بلد كان؛ فإن الغربة في كل حرف منها قصة معاناة وحرقة قلب مشتاق وحنين طاغي وألم يكبر وأمل يشاطرني اللحظات والأيام. الغربة علمتني... أن أميز بين البلد وبين من دمر البلد وأوصلها إلى مهاوي الردى. الغربة علمتني... أنه لا بد من التمييز بين الفرحة والشهوة والملذات الآنية واللحظية وبين الراحة النفسية والجسدية الدائمة والحقيقية.
الغربة علمتني... أن مكيفات الدنيا كلها لا تستطيع تبريد جمر إشتياقي لبلادي الغالية، ولا تستطيع إطفاء لهيب غضبي من الفساد وزمرته في بلدي الحبيب. الغربة علمتني... قيمة أن تشارك الأهل والأصحاب في أفراحهم وأحزانهم، ومعنى أن تكون بعيدا عنهم في مثل هذه المناسبات. الغربة علمتني... أنه لا بد من وضع هدف لها وغاية من ورائها، وأنه لا بد أن يكون هناك نهاية حتمية لها من صنع يدي بعد أن أكون قد حققت الهدف الذي تغربت من أجله أو الجزء الأكبر منه. الغربة علمتني... أن أسلم أمري لله راضيا ومطمئنا في الأمور التي يسيرني بها الله جل جلاله، وأن أجتهد وأسعى فيما خيريني به.
علمتني الغربة أشياء وأشياء كثيرة لا مجال لحصرها ولكن سيبقى الدرس الأهم والمعادلة الأثبت والأوضح والتي لا يمكن لكيميائيين العالم كلهم تغييرها أو طعن فيها ... وهي أنني لا أساوي قيمتي الحقيقية إلا فوق ذرات ترابك الطهور يا بلدي، حفظ الله الأردن وأهله وبارك لنا به وكفانا الله شر الفاسدين والمفسدين والحاقدين والمتربصين والمتنفعين، وهيأ لنا فرص العودة إليه بأقرب وقت ممكن، وأسبغ نعمة الأمن والأمان عليه وعلى كل بلادنا العربية والإسلامية إنه نعم المولى ونعم النصير.