يجد المتابع للأنباء العالمية أنه لا يكاد أن يخلو يوم من خبر عن حادث أو واقعة يتم تحميلها بالبعد الديني في صراع من الصراعات هنا أو هناك، وحتي أحيانا بدون أن يكون هناك صراع في الدولة محل الواقعة، وللقارة الأفريقية نصيب لا بأس به من هذه الأحداث، وبالتالي يتلخص موضوع الدراسة في محاولة لاستكشاف مدى كثافة وتأثير البعد العقائدي المبني على الدين في الحروب والصراعات القائمة حاليا في أفريقيا وصولا إلى فهم أوضح للادعاءات المنتشرة بتنامي هذا البعد1(، ومدى صحتها بتواجده حقا من عدمه، وإن صح التواجد هل هو مفتعل أم حقيقي؟ وما مدى علاقته بالسياسة كونه أداة في يدها أم العكس أم كلاهما؟ وهل هو نابع من داخل القارة أم مدفوع من خارجها؟ والأسباب والأهداف الكامنة وراء كل ذلك. تعتبر الدراسات والأبحاث المتعلقة بالحروب والصراعات من أكثر الدراسات صعوبة وتعقيدا حيث يكون من الصعب إثبات البعد المهيمن أو المسيطر على الصراع سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا ثقافيا، وخصوصا في ضوء الغموض الذي يغلف أغلب الصراعات والحروب أو حتى التوترات وتحديدا القائم منها واعتبار أغلب المعلومات والقرارات والخلفيات التي تخصها على درجة من السرية. تناول العديد من العلماء والباحثين الأبعاد المختلفة للحروب والصراعات على مر العصور، فهناك من تبنى البعد الاقتصادي محددا أن الدافع والهدف من الحروب والصراعات هو الوصول إلى الموارد واستغلالها أو للسيطرة على أسواق بذاتها أو حتى لمجرد تسويق منتجات لن يتم بيعها إلا في ظروف مماثلة. وهناك من تبنى البعد السياسي فاتجه إلى دراسة وتحليل التحالفات أو الأيديولوجيات وعلاقتها بالحروب والصراعات، وهناك من تبنى أبعادا أخرى كالاجتماعي أو الثقافي أو غيرها، ولكل وجهة نظر نقدها. ومن هذه الأبعاد أيضا البعد العقائدي - التفاتا إلى العقيدة الدينية التي يتبناها بعض أطراف الصراعات والحروب وينبع منها فكر وتحركات تنسب إلى ديانات بعينها - والذي يفضل العديد من الباحثين عدم الخوض فيه خصوصا في ظل المبادئ السائدة حاليا ومنها فصل الدين عن السياسة، أو لحساسية الخوض في المعتقدات الدينية، مما تسبب في بعض الأحيان إلى تجاهله تماما أو استبعاده، ولكن هذا لا ينفى تواجده مع اختلاف درجات تأثيره من عصر لآخر ومن مكان لآخر، فعلى سبيل المثال كانت هناك حروب وصراعات بعينها في فترات مختلفة عرفت بأن أصولها أو مسبباتها ذات خلفية عقائدية دينية سواء بهدف نصرة ديانة أو طائفة بعينها أو محاولة القضاء على أخرى أو غير ذلك من الأسباب. تنوعت أساليب تصنيف الحروب والصراعات بغرض دراستها، ولعل من أكثر هذه الأساليب انتشارا التصنيف بناء على الأسباب إلى أنواع عدة لايزال يظهر منها الجديد، ومن بعضها التمرد بسبب الأحوال الاجتماعية والاقتصادية أو حتى السياسية (والذى تطور في بعض الحالات إلى تبني جماعات أو حركات أو أحزاب سياسية لمطالب الجمهور لتصبح طرفا في الصراع)، والصراع على الموارد، والصراعات الإثنية (إثنيات ضد بعضها أو ضد الحكومة)، والصراعات السياسية (التي تكون في الأغلب على السلطة وغالبا ما تكون الحكومة طرفا فيها بشكل مباشر أو غير مباشر)، والحروب الأهلية، والثورات أو الاحتجاجات. كما اهتم آخرون بنوع آخر من التصنيف وهو الحروب والصراعات ما بين الدول يقابلها الصراعات الداخلية (سواء كانت الحكومة طرفا فيها أم لا) كالتمردات والمطالب الانفصالية والانقلابات والصراعات الأخرى التي نتجت في أغلب الأحوال عن الحرب الباردة، وفي كل هذه الأشكال وغيرها قد يكون البعدالديني هو المسيطر، ناشئا بسببه وهو المحرك الرئيسي فيه وممثلا الهدف النهائي له، أو قد يكون مقحما فيه بدرجات ولمدد متفاوتة لغرض أو لآخر. توصل بعض الباحثين إلى صحة فرضيات تعتبر أن حروبا أو صراعات بعينها كانت – أو لازالت - قائمة على البعد العقائدي أو كونه يشكل أحد أبعادها، ومؤخرا أشارت الكثير من الدراسات إلى ديانات بعينها ومنها ما تطرق إلى طوائف أو حركات كالإخوان المسلمين أو التنظيمات التي تتبنى الفكر الوهابي أو حركات الأصولية المسيحية، كما توسع البعض الآخر في فرضياتهم واعتبروا أنه يمكن وصف حقبة زمنية كاملة بأن الحروب والصراعات التي دارت فيها سيطر عليها البعد العقائدي أكثر من الأبعاد الأخرى، مما يستدعي تطبيق نفس الفكر على الحروب والصراعات الأفريقية المعاصرة أو على الحقبة المعاصرة ككل بهدف استكشاف مدى تواجد هذا البعد وفهم خلفياته حيث لازالت بعض جوانبه لم تستكشف بالقدر الملائم، ومن ذلك على سبيل المثال نشاط الطوائف والمؤسسات الإنجيلية1( في أفريقيا ومدى تأثيرها وعلاقتها بالصراعات والتوترات في القارة بناء على أهدافها العقائدية. تتميز الفترة المعاصرة بخصائص لم تكن متواجدة في الفترات السابقة مما يجعل تتبع الأمور والتطورات فيها أصعب على الرغم من توافر العديد من الإمكانيات التي لم تكن متوافرة من قبل وخصوصا فيما يتعلق منها بالعلوم والتكنولوجيا، وقد يرجع ذلك بالأساس إلى سرعة التطورات في الأحداث وتشعباتها في أكثر من مجال بحيث يصل هذا التشعب إلى درجة التشابك والاختلاط في أوقات كثيرة، فعلى سبيل المثال لا يخلو أحد المواضيع الأساسية على الساحة الدولية حاليا من عدة جوانب في آن واحد منها السياسي؛ والاقتصادي؛ والعقائدي؛ والثقافي؛ والاجتماعي؛ وغيرها مما يجعل اتخاذ القرار صعبا فيما يتعلق بتحديد أي من هذه الأبعاد أكثر سيطرة على هذا الموضوع من الأبعاد الأخرى، هذا بالإضافة إلى أن طبيعة النظام الدولي حاليا وسيطرة قوى بعينها على مجريات الأمور وتنامي قدراتهم على تحويل مسار الأحداث الدولية يفرض الالتفات إلى الخلفيات الكامنة وراء اتخاذهم قرارات بعينها وتنفيذها بصورة معلنة أو غير معلنة. وفي ظل تأثيرات العولمة والتكنولوجيا الحديثة لم تصبح القارة الأفريقية في معزل أو بمنأى عن الأحداث في باقي بقاع العالم، بل أصبحت أكثر تأثيرا وتأثرا بها من ذي قبل، وبالتالي في ظل النظام الدولي الحالي أو ما سبقه ظلت أفريقيا لاعبا رئيسيا ولكن تتفاوت درجة أهميته ومشاركته وفاعليته من وقت لآخر، بالإضافة إلى تأثيرات العولمة أيضا من هدم لقيم كالتسامح والتعايش وتسهيل نمو أفكار مثل التنافر والتفتيت والتقسيم والرغبة في السيطرة، ولكن كانت ولازالت المشكلة هي عدم القيام – ولو حتى بالشكل الكافي – باستكشاف وتحديد طرق المواجهة بما يرتد لصالح القارة ودولها وشعوبها بشكل سليم ومناسب بدلا من الخضوع – طواعية أو قسرا - واعتبار الأمور تطورا طبيعيا للأحداث. وبالتالي تسعى هذه الدراسة إلى محاولة حصر الصراعات والحروب الأفريقية القائمة حاليا واستكشاف مدى كثافة وقدر البعد العقائدي فيها، ومن ثم محاولة تحديد السمات المشتركة بينها والتي تتعلق بالعقيدة الدينية، ثم النظر في الخلفيات العقائدية لأطراف الصراعات ممن يتذرعون بادعاءات دينية – بما في ذلك الأطراف الخارجية - ومقارنة أهدافهم وتحركاتهم بأصل عقيدتهم، وصولا إلى فهم أوضح لطبيعة ما يحدث على الساحة الأفريقية وترجيح مدى الاستمرارية في هذا الاتجاه وكيفية مواجهته واستغلاله بشكل سليم بواسطة دول القارة. ومن هنا تأتى إشكالية الدراسة، حيث تعالت مؤخرا نبرة تضفي البعد العقائدي الديني ليس فقط على صراعات كثيرة بل أيضا على تحركات وقرارات منها الكثير في أفريقيا، وظهرت العديد من الأطراف التي تحمل ادعاءات دينية وتتحرك بشكل يحمل مظهر العشوائية في مجمله – إنما قد يبطن خلاف ذلك - مسببة توترات تتعاظم في كثير من الأحيان؛ لتصبح صراعات بل وتخرج عن نطاق الدولة الواحدة؛ لتنال من مناطق بأكملها، في حين أن جميع ادعاءات وتحركات هذه الأطراف تنأى ليس فقط عن أصول أي من الديانات بل أيضا عن أي فكر طبيعي سوي ومنطقي مما تسبب في حدوث تناقض استلزم ضرورة البحث فيه خصوصا في ظل خطورته لارتباطه بالعقيدة التي يؤمن بها الأفراد والتي لا تقبل – في المعتاد – أي مجال للمناقشة أو الجدال وبالتالي تصبح أهدافها من المحتمات. وتبرز أهمية الدراسة علميا وعمليا كمحاولة لتغطية جوانب من العلاقة بين البعدالديني والصراعات الأفريقية لم تنل قدرا كافيا من البحث سواء كما أو كيفا، وبالتالي إلقاء الضوء – من زاوية مختلفة وقد تكون جديدة - على أحد الأمور التي تشغل الساحة الأفريقية حاليا والتي من الخطورة بمكان لتصبح تهديدا لها بشكل عام ولدولها وشعوبها بشكل خاص مما يستلزم الالتفات إلى كيفية مواجهتها والتعامل معها بشكل إن لم يحيدها يمكنه على الأقل أن يقلل أضرارها. وينحصر الإطار المكاني والزماني للدراسة في الدول الأفريقية التي يوجد بها - وقت بدء الدراسة في 2016 - صراع أو أكثر ومن ثم تحديد منها الذي يمثل البعدالديني أحد مكوناته، وقد استلزمت مقتضيات الدراسة الرجوع في بعض الأحيان بالإشارة إلى أحداث أو توجهات في عقود زمنية ماضية لربطها بما يحدث على أرض الواقع حاليا، إلا أن الدراسة بالأساس تهتم بالتغيرات التي بدأت في الظهور عقب الحرب الباردة ثم أعقبتها أخرى عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 ثم ثالثة بدأت تظهر بنهاية العقد الأول من القرن الحالي مع الاهتمام بالأخيرة لكونها الأكثر كثافة وتركيزا. وبناء على ذلك تسعي الدراسة إلى الإجابة عن تساؤل رئيسي وهو: ما هي مدى سيطرة البعد العقائدي على الحروب والصراعات الأفريقية المعاصرة وما هي خلفياته وأسبابه إن وجد؟ وللإجابة على هذا التساؤل ينبغي البحث أولا حول الإجابات عن عدة تساؤلات فرعية تتمثل فيما يلي: − هل يتواجد البعد العقائدي كبعد مؤثر في الحروب والصراعات الأفريقية المعاصرة؟ − ما هي السمات المشتركة بين الحروب والصراعات الأفريقية المعاصرة فيما يخص العقائد الدينية؟ − ما هي الخلفيات العقائدية لأطراف الصراعات الداخلية أو الخارجية ممن يتذرعون بالدين أو العقيدة؟ − هل يتم في تحركات الأطراف تحميل الخلفيات العقائدية المتذرع بها بما يقابل أصولها الفكرية أم تستغل فقط لتحقيق أهدافا أخرى بعيدة عن أصل العقيدة؟ وانطلاقا من هذه التساؤلات تم تحديد فرضيات الدراسة في: − يعد البعد العقائدي من الابعاد المسيطرة على العديد من الحروب والصراعات الأفريقية المعاصرة. − تشترك معظم الحروب والصراعات الأفريقية في سمات لها علاقة وثيقة بالبعد العقائدي ومنها التطرف الديني والطائفية الدينية. − تحكم تحركات أطراف الصراعات والحروب ممن يتذرعون بالدين أو العقيدة خلفية فكرية نابعة من العقيدة الدينية. − تتناقض تحركات الأطراف مع الأصول الفكرية لعقيدتهم بما يتضح معه أن العقيدة تستغل لتحقيق أهداف أخرى. تم الاستعانة ببعض الأدوات المنهجية في سبيل الوصول إلي إجابات شافية عن تساؤلات الدراسة ومنها الاستقراء والاستنباط والانتقال من العام للخاص أو العكس حيث عمد الباحث إلى تجميع القدر الملائم من المعلومات والآراء حول كل الصراعات القائمة في أفريقيا ثم تحديد وتصنيف السمات المشتركة بينها والمتعلقة بمجال الدراسة باستخدام أداة المقارنة المنهاجية؛ لاستكشاف إن كان هناك ثمة توجهات عامة تخرج عن نطاق المحلية بما يمكن اعتباره تيارا سائدا، ثم تحديد الأطراف الأكثر ارتباطا بهذه التوجهات واستكشاف فكرهم وحقيقة تطبيقه على الأرض لعمل مقاربة عامة تفسيرا للتناقض بين نظرية هذا الفكر وعمليته استنباطا لما قد يكون غير معلن أو واضح من أهداف لبعض هذه الأطراف. وقد تم تقسيم الأدبيات السابقة التي تناولت موضوع الدراسة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، يتناول الأول منهم بالتحليل الحروب والصراعات المعاصرة سواء اعتمادا على نوع الصراع ذاته أو على تواجده في دولة أو عدة دول حيث تمت الاستفادة من ذلك بتكوين قدر مناسب وكافي من الفهم والتوثيق لما يدور في جوانب القارة حاليا1(. كما يتناول القسم الثاني من الدراسات ما يتعلق بالسمات التي تم تحديدها وتصنيفها في هذه الصراعات حيث يستفاد منها في معرفة الآراء المختلفة بشأن هذه السمات ومدى تواجدها وتأثيرها2(، أما القسم الثالث فيتعلق بالخلفيات العقائدية للأطراف الداخلية والخارجية المرتبطة بهذا البعد بغرض فهم الأهداف التي يعلنوها أو يفترض أنهم يتحركون لتنفيذها ومقارنتها بواقع تحركاتهم3(، وبالتالي تجميع كل هذا لتشكيل فكرة عامة حول مدى صدق ومنطقية تواجد البعد العقائدي في هذه الصراعات لتحديد السيناريو الأقرب ترجيحا لمستقبلها. يأتي تقسيم الدراسة بما يخدم الغاية منها، فقد تم تقسيمها إلى بابين، اهتم الأول بتحديد وتصنيف جميع الصراعات القائمة في القارة حاليا ودراستها منفردة الواحدة تلو الأخرى عقب تقسيمها بدورها وفقا للموقع الجغرافي للدولة محل الصراع وصولا إلى معرفة أي منها يحمل بعدا عقائديا، ثم يأتي الباب الثاني ليشمل تحليلا لتواجد هذا البعد في الصراعات من خلال فصلين تم في الأول منهما تحديد السمات المشتركة سواء كانت داخلية أو خارجية، ثم في الثاني استكشاف الخلفيات العقائدية للأطراف الداخلية أو الخارجية التي تعمل – سرا أو علنا – من خلال العقيدة الدينية، ثم يعقب البابين خاتمة للدراسة تم فيها إجمال ما تم التوصل إليه من نتائج ووضع سيناريوهات متوقعة مع ترجيح أقربها للحدوث من خلال ما تم التوصل إليه.