( الطرب هو خفة تعتري العقل عند شدة الفرح أو شدة الحزن )
( ويقال طرب فلان في غنائه تطريبا إذا رجعّ صوته وزّينه والتطريب في الصوت مدُّهُ وتحسينه وطرّب قراءته مدّد ورّجع )
ابن منظور : لسان العرب ، طبعة بيروت ، 1997م ، المجلد الرابع ، صـ 10 .
**********
وصلتني دعوتان لحضور حفل غنائي ، الدعوة الأولى تستهدف حضور أكبر قائد لفيلق الشعر العربي الحالي / عبد العزيز جويدة ، والثانية أحسبها لي من باب مجاملة الشباب لسبق سني .
ولم تصب الدعوة الأولى صاحبها لظروفه العملية ، فانفردت بالذهاب للحفل ، والتقيت أحبابا أعرفهم ولا أعرفهم ، وكانت ليلة فارقة بالنسبة لي ، حيث إنني ظننت أن الغناء المصري بالتحديد قد لفظ أنفاسه الأخيرة بغياب الجديد من العظيم العبقري رقم 1 في الموسيقى العالمية / محمد عبد الوهاب ، وصاحبة العبقرية التي لن تتكرر سيدة الغناء العربي والعالمي أم كلثوم ، ومحيط الإحساس الذي لن يتكرر عبد الحليم حافظ .
وحيث يلهو في غرف الإبداع الغنائي كامل ودياب وشاكر ومن على شاكلتهم ، حيث بدأوا الغناء وانتهوا منه في ذات اليوم تقريبا ، والعهدة على الموسيقار العظيم / حلمي بكر حفظه الله ، الذي قال لي هذه الجملة بمعناها ، أما الألفاظ فالقاريء يعرف مولانا الموسيقار / حلمي بكر حينما يتحدث .
كانت سعادتي بالغة حينما التقيت بأعظم عازف للأورج في تاريخ مصر الفنان الجني / مجدي الحسيني ، وبلغت سعادتي ذروتها حينما استخفه الطرب وهو يستمع لموسيقى أغنية ( قارئة الفنجان ) فقام من على كرسي الفرجة ونسى تعبه وألمه ، وصعد للمسرح ووقف بجوار عازف الأورج ، فسلم له العازف أورجه ، وقام مجدي الحسيني بتهييج الجمهور وهو يضرب مفاتيح الأورج بجنون ، وكأنه يأمره أن يقوم معه ليرقص ، والأورج يتوجع ويعلن موافقته التامة ليمهد للعندليب سعيد ليغني ( بحياتك يا ولدي امرأة عيناها سبحان ( الله ) المعبود
فمها مرسوم كالعنقود
ضحكتها أنغام وورد
والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا )
وما كان لمثلي أن يتحمل جنون مجدي الحسيني ، وهو يثأر من الأورج ، فيخرج منه بكائيات لا حدود لها ، وأنغاما وكأنني أسمع الأورج يقول له ( زدني تعذيبا ، فتعذيبك أجمل الفواكه
عندي ) .
وقف الشاب متوسط الطول ، نيلي البشرة ، لون النيل تماما ، تحدث جملا صغيرة عن الموسيقار محمد الموجي رحمه الله ، وبدأ يغني الغناء العربي الحقيقي بمشاعر عربية عظيمة ، وغلب عليه الارتجال والحرية والمطولات في الآهات والنداءات والليالي ، ويعطي كل حرف مساحته الصوتية المناسبة ، ويزينها ويعيد تلوين الحروف بأحاسيس جديدة ، وترنيمات فريدة ، تعطي نوعا غير مسبوق من الانتشاء بالغناء ، مما أحدث تفاعلات حسية ، فبدت الأطراف تنتشي بالحركات ، والصدور تملؤها الزفرات ، والعيون تفضحها العبرات ، فتمازج الانتشاء الحسي بالانتشاء الوجداني ، مما جعل الأغاني تتسرب في كل الكيانات ، وتوجهها إلى سلوكيات حميمة ، تصل إلى درجة الروحانية العالية ، عاطفيا ودينيا ووطنيا ، فشكلت أغنية ( أنا من تراب ) الوجدان من جديد ، و( قارئة الفنجان ) و( جبار ) و( حلوة بلادي ) .
نعم يعود الغناء المصري على يد العندليب سعيد ورفاقه العظماء مثل يحي عبد الحليم ، وعلى يد الموسيقيين العظماء كحلمي بكر ومحمد علي سليمان ومحمد عبد الدايم وماضي توفيق الدقن .
حفظ الله فناني مصر الحقيقيين من شعراء ومطربين وموسيقيين .