تحل الذكرى المئوية لمولد بطل الحرب والسلام الزعيم المصري الراحل محمد أنور السادات في 25 ديسمبر الجاري. لسنا وحدنا من يحتفل بالسادات فالعالم أجمع يشاركنا في الاحتفاء به وعلي رأسه الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت خصمه اللدود مع ربيبتها إسرائيل ففي الأيام الماضية وقع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب قانوناً لتكريم الزعيم المصري الأسبق الراحل محمد أنور السادات، بمناسبة مرور 100 عام على ميلاده.
كان الكونجرس الأمريكي قد مرر الصيف الماضي مشروع هذا القانون، الذي يمنح السادات ميدالية الكونجرس الذهبية بعد وفاته اعترافاً بإنجازاته وإسهاماته من أجل السلام في الشرق الأوسط. فأخيراً أصبح العالم ُيصغي لصوت السلام ويجد فيه بديلاً عن الحروب والقنابل والرصاص، ويستمع لزعيم أفني حياته من أجل مصر ،ولم يبخل عليها يوماً بلحظة من عمره ولا بقطرة من دمه وهبها حياته وفكره لذا منحته مصر الخلود الدائم وخاصة بعدما استرد الأرض والعرض والكرامة وأعاد كامل ترابها الوطني.
السيدة جيهان السادات رفيقة دربه عندما سألوها عن أهم ما يميز زوجها كيف أجبر العرب علي حبه واحترامه وخاصة بعد وفاته فأكدت: أن السادات تميز بميزتين كبيرتين يحبهما العرب ويعتبرونهما من خصال السعادة والسؤدد كما يقولون
،الأولى هي التعفف والزهد فيما بأيدي الناس ومن يقرأ كتاب البحث عن الذات يلمس هذه الخاصية في كل مراحل حياته السياسية، والصفة الثانية من صفات السادات التي أعطته القوة الحقيقية في وسط عواصف العالم العربي هو إيمانه بالحق والقانون فالسادات يؤمن أن الإنسان يزداد قوة بما يعطي لا بما يأخذ، وكلما زاد عطاؤك زادت قوتك".
لكن من وجهة نظري تكمن قوة السادات الحقيقية في ديناميكيته وفي تفكيره الذي سبق عصره وفي قراراته الجريئة المصيرية التي غيرت وجه الشرق الأوسط، فمن كان يظن أن السادات سيحارب إسرائيل في عام 1973 وقبلها بعامين يؤكد أنهما عاما الحسم ويمران دون حسم ودون وفاء السادات بوعده للشعب المصري ولايبالي بالضغط الشعبي ولايبالي بتذمر المصريين من حالة اللاسلم واللاحرب، بل كان مندفعاً في خطة الخداع الاستراتيجي التي مازالت تدرس إلي الآن في كل الأكاديميات والمعاهد العسكرية الإسرائيلية والعالمية.
كيف خدع الأقمار الصناعية للدولتين العظميين آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي؟ كيف أقنع العدو بأن كل تحركات الجيش المصري علي طول الجبهة وهذه الحشود المصرية المرابطة علي شريط القناة كل ذلك مجرد تدريبات عسكرية روتينية وليست استعدادات وتجهيزات لدخول الحرب؟ كيف خدع السادات الc i a وال k j p وجهاز الموساد الإسرائيلي؟
وفي عام 1973 أقدم السادات على اتخاذ اخطر القرارات المصيرية في تاريخ مصر ليقرر دخول الحرب ضد إسرائيل، ليقود مصر إلى أول انتصار عسكرى فى العصر الحديث. وتتوالي المفاجآت والصدمات ففى خطابه الذى ألقاه أمام مجلس الشعب فى 9 نوفمبر1977. يرمي بقنبلة سياسية نووية عندما أعلن: إننى على استعداد أن أذهب إلى آخر الأرض إذا كان ذلك سيمنع إراقة دم جندى واحد من أبنائى, أنا مستعد أن أذهب إلى آخر الأرض، وسوف تدهش إسرائيل حين تسمعنى أقول إننى مستعد أن أذهب إلى بيتهم إلي الكنيست ذاته كى أناقشهم) .
بهذه العبارة التى قالها السادات تهتز أركان المعمورة من خطاب دبلوماسي لم يعهده العالم زعيم دولة يذهب لخصمه في عقر داره ليعرض عليه السلام ليس عن ضعف بل من مركز القوي المنتصر. لم يصدق أحد في العالم أن السادات سيزور إسرائيل فعدوها مزحة والبعض الآخر اعتبرها مناورة سياسية جديدة من مناوراته. وفى مساء السبت التاسع من ذى الحجة 1397هـ الموافق السبت 19 من نوفمبر 1977 يستيقظ العالم على الخطوة الأكثر إثارة فى تاريخ الشرق الأوسط ويحسم الجدل حول زيارته لإسرائيل.
رد فعل الجانب الإسرائيلي كان في غاية الدهشة والحيطة والحذر والخوف فأعلنت إسرائيل التعبئة العامة، ويأمر بيجين بعض القناصة بالاستعداد فى شرفات المطار خوفاً من أن يكون ذلك مؤامرة جديدة من السادات، جيش الدفاع الإسرائيلي في حالة تأهب قصوي فقد ظنوا أنها خدعة أخري من حيل السادات التي يجب الاستعداد لها.
وفي لقطة أسطورية يصل السادات إلى مطار اللد فى (سبتمبر)1977 لتخرج إسرائيل عن بكرة أبيها لتشاهد صلاح الدين الجديد الذي أذل هامة إسرائيل
لتغطي الحشود طول المسافة بين اللد والقدس البالغة 50 كيلومتراً تقريباً، المفارقة أن هذه الجماهير لم تنصرف مباشرة حتي بعد مرور الموكب فما زالوا تحت تأثير الصدمة.
أما زعماء إسرائيل وقادتها ففي موقف لايحسدون عليه كيف يستقبل القادة المنهزمون القائد الذي انتصر عليهم في عقر دارهم موقف ليس له نظير ولاشبيه في التاريخ، دبلوماسية جديدة اخترعها السادات وسجلها باسمه بصورة حصرية في صفحات التاريخ المضيئة لم يعهدها العالم ولم يألفها الصهاينة.
فها هو بيجين المتحفظ بنظارته السوداء السبعينية الكلاسيكية السميكة التي تخفي وجهه، يفتح ذراعية للسادات حتي يتأكد أنه لايحلم، وبجانبه يصطف موشى ديان الذي أنهي السادات أسطورته العسكرية، وشارون ، وإسحق شامير رئيس الكنيست، أما على اليسار فتقف جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل السابقة وهي في حالة يرثي لها فالسادات كما تقول بعض الروايات بعد سويعات من حرب أكتوبر جعلها كادت أن تقدم علي الانتحار كدولتها التي كانت علي شفير السقوط وحافة الهاوية وبعد اتصال وتوسلات للرئيس الأمريكي وسامري اليهود الجديد هنري كيسنجر اللذين أعطيا جولدا وتل أبيب قبلة الحياة بتدخل عسكري أمريكي مباشر بعملية نيكل جراس وأضخم جسر جوي في التاريخ لكانت جولدا ودولتها في طي النسيان، عبرت جولدا عن دهشتها الشديدة حين رأت السادات قائلة عبارتها الشهيرة "هذا شيء لا يصدق".
ليوقع السادات مع إسرائيل في عام 1979، معاهدة سلام عرفت باتفاقية كامب ديفيد بالولايات المتحدة، قبل اغتياله بعامين خلال احتفالات أكتوبر عام 1981.
لتثبت الأحداث بعد ذلك ُبعد نظر السادات وعمق نظرته ودهائه في قراءة المستقبل وليبرهن للأجيال السابقة والحالية والقادمة أنه رجل دولة ورجل سياسة، استشهد السادات في يوم نصره برصاص الخسة والغدر والخيانة والإرهاب ليبداء العرب بعده رحلة ماراثونية شاقة مع الكيان الصهيوني يلهثون وراء ذيل حصان إسرائيل لتحقيق سلام مهين متحسرين علي أيام السادات ومااقتنصه من سلام قد رفضوه يوم جلب لهم النصر بعزة وكرامة.
ليرد السادات علي منتقديه وعلي أصحاب الحناجر وعلي دعاة الهزيمة والفشل وأصحاب النظرة القاصرة التي لاتري حتي ماتحت أقدامها في عصره وفي عصرنا "ما فعلته مع إسرائيل منتهى طاقتى وعلى الذين يأتون بعدى أن يحرروا القدس بالأفعال والرجال وليس بالتصريحات".