دارت في رأسي الظنون سيل جارف من الأسئلة والأفكار هل إسرائيل لم تعلم حتي الآن؟ أبداً بكل تأكيد تعلم بلاشك سيضربوننا ذرياً سيدكون هذا الجيش المحتشد علي الخط الأمامي للقناة لنصبح أثراً بعد عين في لمح البصر.
كيف ستعوض مصر هذا الجيش؟ ستكون نكسة أخري أمر من نكسة 1967. لم تٌمن مصر علي مدار تاريخها بهزيمتين متتاليتين سنكون الجيل الأسوأ في تاريخ مصر فهذه المرة ستكون الهزيمة قاصمة ستصل إسرائيل هذه المرة إلي العمق المصري إلي قلب القاهرة ماذا عن الأطفال والشباب والعجائز والشيوخ حتماً ستبيدهم إسرائيل وسيقتلونهم شر قتلة وبدم بارد لكن ماذا عن النساء ياإلهي... وشرف مصر العسكري أي عارٍ سيلحق بنا نريد المواجهة جئنا إلي هنا للحرب جئنا للقتال.
قفز إلي ذهني مشهد عبدالوارث عسر في فيلم صراع في الوادي وهو متجه لتنفيذ حكم الإعدام دون جريرة أو ذنب وجه عبدالوارث عسر البريء المظلوم وتعبيرات وقسمات وجه( عسر) يقتلاني بقسوة سنقتل دون مواجهة دون أن نخوض حرباً حقيقية دون تلاحم وقتال دون اشتباك وما قمنا به من تدريبات وعمليات وحرب استنزاف كبدت العدو خسائر فادحة كل هذا سيذهب سدي!؟
من الذي سيصدق أننا لم نجبن ولم نتخاذل ولم نتقاعس عن نصرة الوطن من ذا الذي سيقتنع أننا بُراء من هذه التهمة كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب.
الوساوس تراودني تعصف بكياني تزلزل جسدي الشيطان يحطم رأسي يزيد جنوني. استعنت بالله قرأت ماتيسر لي من قصار السور حتي أطرده من رأسي استجمعت شجاعتي تجاوزت مرحلة الرهبة من الموت أنا هنا أبحث عن الشهادة أو النصر كل ماأريده هو أن تتاح لنا فرصة للقتال لنموت بشرف كالفرسان في قلب الميدان لابالخديعة،
قرأت الفاتحة تمتمت بالشهادة حملت حفنة من رمال الوطن قبلتها ووضعتها في جيبي الأيسر لتكون فوق قلبي خاطبتها بدقات قلبي فلتشهدي أيتها الرمال الطاهرة المباركة لي ولكل زملائي أمام ربي يوم الحشر العظيم أنكِ لم تهوني وأننا لم نفرط ولم نقصر وأننا بذلنا وسنبذل الغالي والنفيس من أجل استردادك من أحط وأخس مستعمر عرفته البشرية فلسنا أقل من أحمس ورفاقه وكل الأبطال الذين حرروكِ علي مدي التاريخ من دنس الطغاة والمستعمرين من هكسوس وفرس وإغريق ورومان وتتار وصليبيين وإنجليز وفرنسيين.
بعد لحظات سأكون في عالم آخر لا وربي بل أريد الظفر بالشهادة ولكن بقتال. تذكرت الشاعر العربي قطري بن الفجاءة الذي وصف هذه اللحظات بأروع وصف وهو من هو في الشجاعة يحث نفسه علي الثبات والإقدام يستثيرها بهذه الأبيات الحماسية.
أَقولُ لَهَا وَقَدْ طَارَتْ شَـعَاعاً
مِنَ الأبطَالِ وَيْحَـكِ لَنْ تُرَاعِي
فإِنَّكِ لَو سَـأَلْتِ بَقَـاءَ يَوْمٍ
عَلىَ اَلأَجَلِ الَّذِي لَكِ لَمْ تُطَاعِي
فَصَبْراً في مَجَـالِ الَموْت صَبْراً
فما نَيْلُ اَلْخُلُودِ بمُسْـتَطَاعِ
ولا ثَوْبُ البَقَـاءِ بِثَوْبِ عِزٍّ
فَيُطْوَى عَنْ أَخِي الْخَنَـع الْيَرَاعِ
سَـبيلُ اَلَمْوتِ غايَـةُ كُلّ حَيٍّ
فَدَاعِيهِ لأَهْـلِ الأَرْضِ داعٍ
وَمَنْ لاَ يعتبط يَسْـأَمْ وَيَهْرَمْ
وَتُسْـلِمْهُ الْمَنُونُ إِلى انْقِطاعِ
وَمَا لِلْمَرْءِ خـيْرٌ فِي حَيَـاةٍ
إِذَا مَا عُدَّ مِـنْ سَـقَطِ المتَاعِ.
لاياقطري يابن الفجاءة فلست هذا الرجل الجبان الذي يحث نفسه علي الإقدام أو حتي بالرجل نصف الشجاع أنا فقط أريد فرصة قتال حرباً نخوضها بشرف، إرادة أمام إرادة، رجال أمام رجال، بدون تآمر أوخيانة كما حدث في 1967.لقد أخذونا علي حين غرة لست مثلك يابن الفجاءة لم أهب الموت لحظة فأنا فدائي نفذت عمليات استنزاف فدائية ضد الصهاينة وحملت أسراهم علي ظهري كالجرذان والكل أشاد ببطولاتي وشجاعتي، ولايخلو جزء من جسدي إلا وحفرت فيه الشظايا وشماً غائراً يستحيل إزالته، وفي كل عملية كنت أقتل عدداً كبيراً من الصهاينة بين ضباط وجنود، وأوقعنا في صفوفهم خسائر في الأرواح والمعدات كما كان يُطلب منا فما أجبن الصهيوني عندما تلتقيه وجهاً لوجه بعيداً عن دروعه وحصونه ،لا يجيد الاشتباك ولا القتال عن قرب،لكن تلك العمليات السريعة والخاطفة لم تكن أبداً لترضيني ولم أقنع بها أنا وزملائي ، كنا نتعطش لحرب حقيقية نقاتل فيها عدواً صنع نصراً زائفاً بضربة غادرة توجه بهالة كاذبة أعقبها قرارات عسكرية طائشة وغبية كشفت عورتنا وأوقعتنا في براثنه وشباكه، أنا لاأخشي إلا الخيانة، يارب مددك وعونك.
اللحظات دهر كنت أعلم أنها لحظات تاريخية ستقرر مصير مصر، ومصير هذا الجيل. امتلكت رباطة جأشي لأزيل عن جنودي وضباطي حاجز الرهبة والخوف نظرت لهم بكل حسم غلفت وجهي بطابع القوة والخشونة خاطبتهم بلهجة الثقة والتحدي. "ياجند الله نحن الآن في لحظات حاسمة فاصلة بين التدريب والحرب بين النصر والهزيمة بين الحق والباطل ياجند الله إنها الحرب إما النصر وإما الشهادة" وبعد ثوانٍ وفي تمام الساعة الثانية حلقت طائراتنا في السماء كهامات فوق رؤوسنا إلي سيناء وبدأت نيران القصف المدفعي...
في تمام الساعة الثانية وخمس دقائق أطلقت صيحتي بكل فخر وعزم وعزة وقوة (هجوم) فكبروا جميعاً الله أكبر، الله أكبر... بصوت زلزل الأرض تحت أقدام العدو. ثم أزحنا حائط الفتحات الشاطئية، دفعنا القوارب إلي مياه قناة السويس دلفنا فيها لم تنتظر التجديف كانت تتحرك من تلقاء نفسها بنفس درجة شوقنا لعبور الشاطئ الشرقي نظرنا إلي بعضنا البعض في دهشة وذهول حقاً إنها معجزة إلهية وإشارة وعلامة ربانية قوت من عزيمتنا ،في هذه اللحظة تأكدت أن الله معنا تحوطنا ملائكته التي كنا نعبر علي أكفها فزادت حماستنا. القوارب المطاطية تعبر بنا إلي الشرق بخفة لانظير لها لم يستغرق العبور ثواني فقد تلاشي الزمان والمكان. لم يطلق العدو علينا أي نيران علي غير المتوقع فقد كنا نتوقع خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات في مرحلة العبور لقد كانوا في عيد غفرانهم الذي حولناه عيداً لنصرنا ومحونا فيه آثار ذنوب هزيمتنا في 1967.
غادرنا القوارب بسرعة لنعتلي الحافة الحجرية ثم الساتر الترابي المرتفع لأكثر من ستة عشرة متراً بشكل يصعب صعوده مع مانحمله من أسلحة وذخائر وأجهزة ومواد غذائية ولكننا مدفوعون دفعاً ذاتياً بشحنة الإيمان وبوقود العزيمة والأمل والنصر وعدالة قضيتنا لاسترداد أراضينا المغتصبة. كدت أسقط في مياه القناة لولا مساعدة الجنديين مرزوق وإسماعيل مكاوي. صعدنا وبدأنا معركة مباشرة مع أفراد الدورية الإسرائيلية الذين كانوا يتمركزون أعلي الساتر وبمجرد أن لمحونا هربوا خلف أسفل الساتر تخلصنا منهم بهدوء. صعدنا عند القمة زرعنا العلم المصري في لحظة استثنائية اشتدت فيها سرعة الريح وكأنها هي الأخري فرحة مسرورة ليرفرف العلم المصري بكامل استطالته لينفض الغبار عن عار نكسة يونيو 1967.
لأسبح في نشوة جميلة وتدخلني الطمأنينة وشعور النصر قبل أن يبدأ القتال وتطأ قدمي لأول مرة وأقدام سريتي رمال سيناء وأرض الفيروز وفي وضح النهار وكأننا دخلنا الجنة كم كانت سيناء جميلة ساحرة جمال فتان أخاذ ممتد إلي مالانهاية وجنود سريتي فرحون يقتربون مني لتهنئتي بعودة سيناء وبعضهم يسجد لله شاكراً والبعض الآخر يقبل رمال سيناء ويبكي بحرارة وأنا في عالم آخر أبحث عن الصهاينة أين هم؟
أين هؤلاء الملاعين؟
من أين سيأتون؟
أريد القتال...