البيارق السوداء .. قصة قصيرة .. للدكتور عادل عبد الرحمن
من أخر اعمال الكاتب الفنان ا.د عادل عبد الرحمن قصة قصيرة بعنوان البيارق السوداء والتى لاقت استحسان الجمهور والنقاد وأختص جريدة القمة بنشرها .
انطلق الفتى مدبراً .. تطارده بصمات قدماه المحفورة فى رمال الشاطىء المترامى طولاً وعرضاً .. ألقى بصدره الساخن فوق سطح الماء الساكن الممتد عبر الأفق اللا نهائى من الزرقة المتعددة الدرجات . سرت الرعشة فى أنحائه حينما تناثر على جسمه الدافىء النحيف رزاز الماء البارد .. إستلقى على ظهره مشرعاً ذراعيه المنهكتين من فرط الإجهاد والتعب .. تطلع إلى السماء التى اختلط فيها اللون الأزرق الصافى باللونين الأبيض والرمادى الشاحب ، وقد تخللت ثناياها خيوط الشمس الذهبية الواهية ، تداعب عينيه فيغمضهما تارة ، ويحولهما عنها تارة أخرى .. حمله سطح الماء الناعم فراح يلقى بهمومه وآلامه .. لاطفته مياه البحر فى رقة وعذوبة ، استرخى على أثرها طافياً فوق سطح الماء .
جالت بخاطره ذكريات أيام مريرة مرت به .. تذكر حبه الأول ومشاعره الحالمة الماضية المؤلمة ، كم أحب فتاته طوال سنوات دراسته الجامعية ، كانت بالنسبة إليه الماء والهواء .. كانت الحاضر والمستقبل .. الحلم والأمل .. اليوم والغد .. لم يكن يتصور يوماً أن يفترقا ، لتصبح الحقيقة سراباً ، والأحلام أوهاماً ، والأمال قد تلاشت ، والحب غدراً ، والحياة عتمة رتيبة .
لقد غادر الفتى القاهرة بزحامها وهمومها الجاثمة على صدور أهلها ، متجهاً صوب شاطىء البحر ليلقى بأحزانه فى أعماق اليم الواسع ، ويطهر جسده النحيف من أوهام وأحزان الماضى الأليم ، التى طالما علقت به ، شعر بمعنى الغدر وتبعاته ، لفه الحزن وغلبه اليأس .. اختلطت مشاعره وتباينت أحاسيسه .. أغرورقت عيناه بالدموع من الحسرة .. إعتصر قلبه الألم ، تجهمت أسارير وجهه لتعكس شعوراً قاسياً بالامتعاض .
داهمته دفعة قوية من الماء على غير المتوقع .. اقتلعت جسمه النحيل .. أطاحت به من رأسه إلى أخمص قدميه .. تجرع كميات كبيرة من مياه البحر المالحة ، التى غزت أنفه وفمه وعينيه ، تدارك الأمر فهب واقفاً ، تمتم بكلمات غير واضحة ، مسح عينيه فبدت كجمرة حمراء ، لطمته موجات عارمة متتالية .. مرات ومرات .. حاول النهوض فبدا مترنحاً .. غلبه الإعياء الشديد ، وراح يقاوم بشدة ، يصارع الأمواج العالية فى كل صوب ، وجد الفتى نفسه ينساب إلى القاع .. لامست قدميه الرمال الشديدة النعومة .. دفعها بكل ما أوتى من قوة ليصعد مرة أخرى إلى سطح البحر ، توالت الضربات وتتابعت اللطمات فى عنفوان وقسوة .. سحبته الرمال الناعمة إلى الداخل ، حاول الفتى إلتقاط أنفاسه اللاهثة المتلاحقة .. ظلت الأمواج تدفعه والرمال تسحبه إلى داخل البحر .. مسافات ومسافات .. حاول جاهداً التشبث بأى شىء يصادفه ، لكنه لم يجد سوى الرمال الناعمة الملساء .. تسحبه مازالت .. قاوم وقاوم .. متحدياً .. فى معركة غير متكافئة ، شعر بالموت يكاد ينال منه .. ينتزع روحه .. دون سابق إنذار أو تحذير .. نظر بطرفه فإذا السماء ملبدة بالغيوم ، وبالسواد قد اتشحت .. أصوات الرعد تهدر معلنة حالة من غضب الطبيعة وثورتها .. وجد الفتى المصطافين كافة يهرعون فى اتجاه الشاطىء .. كأسراب من النمل تسعى فى طلب النجاة ، وكان قد ابتعد كثيراً .. كثيراً جداً عن الشاطىء .. شعر بيد قوية تلتقطه وسط الأمواج العاتية المتلاطمة .. تقذف به بعيداً إلى الشاطىء .. شعر وكأن القدر يسوقه إلى النجاة ، إنساب إلى أسفل مرات ومرات ، أحس مرة أخرى باليد القوية تجذبه إلى أعلى وتدفعه إلى بر الأمان ، شرع فى تحريك ساقيه وذراعيه بقوة وإصرار .. متحدياً غضب البحر العارم .. سبح فى اتجاه الشاطىء .. بلغ الرمال الناعمة .. نهض واقفاً مترنحاً .. يرتعش جسده النحيل المبتل بالماء .. البرودة تسرى فى أنحائه .. نظر فى الأفق .. بلغت مسامعه صفارات الإنذار .. تدوى وتدوى .. رأى شخصاً فى لباس البحر .. متجهم الملامح على الشاطىء .. يشير فى حدة وغضب إلى المصطافين .. يدعوهم إلى الخروج الفورى من البحر .. ولاحت فى الأفق البعيد رايات صغيرة سوداء .. ترفرف فوق أعمدة الشاطىء المنتشرة على مسافات متباعدة .. تنذر وتحذر من الخطر المحدق .. لاحت من بعيد .. البيارق السوداء .