هناك في ضاحية عين شمس التي كانت تنعم بالهدوء وقت طفولتي حيث كانت تقطن اسرتي الصغيرة، شاهدت مزيجا من حياة الريف والحضر، فعلي مقربة منا حقول ممتدة فسيحة في ( عرب الطوايلة)، وحدائق النخيل الغناء في (بركة الحاج، وعزبة النخل والمرج)، وعلى بعد خطوات من مسكننا، كانت فيلا الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية وفيلا أمير الشعراء احمد شوقي، وحديقة المانجو الشهيرة وداخلها فيلا الشهيد الطيار احمد عصمت الذي قتلته قوات الاحتلال الانجليزي بعد أن قتل قائد الكمين وجنوده عند استوقافه لتفتيش سيارته الخاصة التي كان بها سلاحا للفدائيين، ومحطة سكك حديدية كبيرة، كانت ملتقى قطارات كوبري الليمون المرج والخط الحربي لقطار عين شمس السويس، ونقطة تمركز للتشهيلات والشرطة العسكرية، وكانت ساحة اللعب لكرة القدم بجوار مدرسة المتفوقين الثانوية بعين شمس والتي تجمع اوائل الجمهورية في الشهادة الاعدادية من كل المحافظات المصرية.
وأمام محطة السكك الحديدية كانت فيلا المثال الشهير محمود مختار صاحب تمثال نهضة مصر.
هذه الطفولة الخصبة بمشاهدها الثرية وبين هذا التراث الحضاري والثقافي والخليط الاجتماعي بين الطبقات، اثري الخيال وعمق الرؤية وعصف بالذهن بالعديد من الأسئلة العفوية لاطفال صغار يبحثون عن حقيقة عالمهم الجديد والفريد بالنسبة لغالبية اقرانهم بمناطق أخرى محيطة بتلك الضاحية.
لم أكن ادري لماذا نطفئ الانوار ليلا، ونقوم بطلاء النوافذ باللون الأزرق؟ ولم اكن استوعب لماذا نسرع ونحن نهرول على سلالم المنازل في اتجاه الملاجئ التي اعدت تحت الارض عند سماع صفارات الانذار؟
كنت اسأل أبي... لماذا كل هذا؟ وكان يجيب.. بيننا حرب مع إسرائيل.... كنت في السابعة من عمري عندما وقعت هزيمة الخامس من يونيو،
ولم أشاهد ابي ابدا وهو يبكي طيلة حياتي، إلا عند تنحي عبد الناصر عقب الهزيمة المرة، عقولنا لم تكن تستوعب مثل هذه الدراما الواقعية الحزينة وقتها، لماذا يبكي ابي ولماذا كان يتحدث الرئيس بنبرة صوتية حزينة وهو منكسر الارادة، منكس الرأس؟
إلى أن نادي على رفاق الطفولة بعدها باسابيع قليلة، لنذهب إلى محطة قطارات عين شمس لنشاهد آثار الدمار لدبابات ومدافع وعربات تفحمت والسواد يغطيها، كانت هذه المعدات محملة على قطار البضائع القادم من السويس وقد تم تغطيتها بمشمعات كبيرة حتى لايشاهدها الناس، لكنني ورفاق طفولتي شاهدناها وجلسنا فوقها، ولم نكن ندري اننا نجلس على اطلال هزيمة منكرة.
وحين تمسك الشعب بقائده وطالبه بالعدول عن قرار التنحي، عاد عبد الناصر ليبحث عن أهل الخبرة ويلفظ أصدقاء الثقة، ليعيد بناء جيش من تحت خط الصفر، عاد ليبث الأمل من جديد، ويعيد الروح الي جسد يصارع الموت، واضعا ثقته في الشعب وفي رجال انتقاهم من خارج دائرته المقربة التي كانت سببا مباشرا للهزيمة النكراء.
كنت عائدا من مدرستي الابتدائية، وشاهدت الناس تهرول الي ورشة حدادة على مقربة من محطة السكك الحديدية، فجريت مسرعا خلفهم، حتى وصلت إلى حلقة كبيرة من الناس تنظر بامعان الي الحداد وهو يستعدل قطعة كبيرة من الألومنيوم على السندان.... وحين سألت الناس ماهذا؟ قالوا... انه جناح طائرة إسرائيلية اسقطناها وهذه النجمة السداسية البيضاء المرسومة على الجناح هي شعار العدو الاسرائيلي.
عدت الي المنزل منتظرا عودة ابي من العمل، لاقص عليه ما شاهدته وماسمعته امام ورشة الحدادة، وحين سمع روايتي... أجاب والسرور باديا على وجهه.... نعم... نحن الآن في حرب الاستنزاف... وكانت هذه أولى مؤشرات عودة الروح لبناء جيش قوي من جديد بحثا عن الثأر من عدو نال من كبريائنا وكرامتنا.
مرت السنوات والتحقت بالمدرسة الاعدادية في شرق ضاحية عين شمس، وكان لابد أن اعبر قضبان قطار السويس الحربي مرتين يوميا، إلى أن شاهدت في مشوار عودتي الي المنزل قطارا محملا بالدبابات والمدافع والعربات وآليات اخري كثيرة، كانت مدمرة ومكشوفة للعيان، لكنني أدركت انها آليات العدو الاسرائيلي، فقد كانت نجمة داوود السداسية بادية على طلائها، لم افكر كثيرا، ولم اخش من يستوقفني، حين هممت بالصعود الي عربات القطار، اتفحص كل دبابة ومدفع وعربة، دفعني الفضول الي جذب فتحة إحدى الدبابات وأمر من خلالها لاجلس بداخلها.... كنت انظر إلى كل ركن فيها والي أجهزتها العديدة... وانا لااصدق نفسي انني على مقعد قيادة دبابة، كان أقصى مايعن لي من خيال، ان ارسمها فقط في كراسة الرسم عندما يطلب منا رسم معركة حربية.
وها انا اجلس بداخلها وكأنني في حرب حقيقية، لا أدري أيضا كيف دفعني الحماس الممزوج بالفضول، ان اخرج قلمي من حقيبتي المدرسية واكتب اسمي على شمال مقعد قائد الدبابة واسم مدرستي الاعدادية مذيلا بتاريخ الحدث.
مرت الايام سراعا ونحن في زهوة النصر على عدو قوي بمعداته الإلكترونية الحديثة، متفوقا عنا كثيرا بأحدث ماانتجته مصانع السلاح الأمريكية، بل انه في آتون رحي الحرب كان هناك جسرا جويا من امريكا الي سيناء مباشرة يحمل معدات عسكرية وعليها جنودا أمريكيون، استجابة لنداء جولدا مائير.... انقذوا إسرائيل.
مرت الايام ونظمت مدرستي رحلة إلى معرض الغنائم بالجزيرة.... وعندما شاهدت غنائم الحرب، تذكرت تلك الدبابة التي جلست فيها، وصممت على أن ابحث عنها بين العديد منها، حتى وجدتها... وجلست فيها مرة أخرى...ووجدت تذكاري الغالي الذي حفرته على جدرانها... كان اسمي واسم مدرستي.. تحيا الوطن الاعدادية للبنين بعين شمس.
وفى غمار نشوة النصر وفي الذكرى التاسعة والأربعون، يجدد الذكريات احد أبطال ذلك النصر العظيم، ابن قريتي القرشية واحد مقاتلي المجموعة ١٣٩ صاعقة، الذين تصدوا لقوات الثغرة الإسرائيلية بقيادة شارون بمنطقة جناين المانجو بالاسماعيلية، البطل المقاتل الرقيب احمد ابراهيم البدري، الذي سطر أروع ملاحم البطولة والفداء، حين تقدم ورفاقه الابطال متمركزين في كمين ابي عطوة... ولأن قناصة العدو الاسرائيلي قد تسلقوا أشجار المانجو متخفين فيها... كان من السهل عليهم القنص وهم في هذا الوضع، فارتقي الي جواره شهيدين من رفاقه، بينما شاءت إرادة الله أن تخترق الرصاصة رقبته من بين احباله الصوتية دون أن تصيب اوردة وشرايين الدماغ، ليكتب الله له النجاة بعد موت محقق، تحامل البطل على نفسه بعد أن فقد الكثير من الدماء، مشي خطوات بطيئة الي أن وصل إلى أقرب قرية، ليشاهده الاهالي هناك، وحين علموا انه مقاتل مصري حملوه الي أقرب نقطة لقوات الجيش، ومنها إلى المستشفى العسكري.
كنا في غاية الزهو والفرح، وتكاد اعناقنا أن تطال السحاب... ونحن أهالي قرية القرشية نشاهد رئيس الدولة يكرم هذا البطل مع أربعة من رفاق السلاح...مشفوعا بتحية عسكرية من قادة القوات المسلحة وفي مقدمتهم الرئيس السيسي.... إلى آخر من تبقى من رجال حرب أكتوبر المجيدة....
مااروع ان تكون شاهدا على الهزيمة والنصر، حينها تدرك ان النصر يأتي عزيزا وغاليا وان مااخذ بالقوة لايسترد الا بالقوة.
عاشت مصر وعاش ابطالها وعاش شعبها العظيم.